الغِنَى هو امتلاك الثروة سواء على شكل أرض أو ماشية أو مبانٍ أو عبيد أو أموال، فهذه هي التي كانت تشكل عناصر الثروة في المجتمع قديمًا في فلسطين.
وكانت النظرة الأصلية للثروة -في العهد القديم- هي أن يهوه -باعتباره الخالق- هو مالك كل شيء لأن "للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها" (مز 24: 1). وفي الحقيقة لم يكن بنو إسرائيل سوى وكلاء على أرض فلسطين، وقد استودعها إياهم الرب (لا 25: 23؛ عد 33: 53؛ تث 15: 4؛ 26: 9). وكان فشلهم في الاتكال على الرب - مصدر كل خير لهم- وذلك بنقضهم العهد وعبادتهم لآلهة أخرى (انظر تث 8: 17-20)، هو سبب إجلائهم عن الأرض وسبيهم. لكن الرب وعد البقية الأمينة بأن يأتي إليهم بثروات الأمم حولهم (إش 45: 14؛ 60: 5؛ 66: 12؛ ميخا 4: 13)، وهكذا كان الغنى علامة على غضب الرب (انظر مز 1: 3، 4).
وكما كانت المكافأة على الطاعة والأمانة هي بركة الأمة، وكما كانت اللعنة والخراب عقابًا للعصيان، هكذا كان الأمر أيضًا بالنسبة للأفراد. فكما بارك الله الأمة على أمانتها ، هكذا بارك الله إبراهيم (تك 13: 2؛ 14: 23)، وسليمان (1 مل 3: 13). ويتناول سفر أيوب هذه القضية من كلا الوجهين، فالأمانة تأتي بالغنى، والعصيان يأتي بالفقر والضيق (انظر مثلًا أيوب 21).
ويمتلئ العهد القديم بالإنذارات والتحذيرات للذين يسعون وراء الغنى بوسائل وطرق غير شريفة، مثل الجشع والخيانة، وكذلك للذين يفترون ويتكبرون ويفخرون بالغنى (مز 52: 7؛ 62: 10؛ جا 10: 6؛ إش 5: 8؛ 10: 1 -3؛ إرميا 5: 27 -29؛ 17: 3، 4؛ حز 7: 10، 11؛ 28: 2-9؛ ميخا 2: 2؛ 6: 12)، " لأن كل أعماله هي حق وطرقه عدل، ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر أن يذله (دانيال 4: 37).
وفي كثير من المزامير تستخدم كلمة "غنى" مرادفًا لكلمة "شرير"، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. بينما تُسْتَخْدَم كلمة "مسكين" مرادفًا "للأمين" أو "البار" أو "التقي" ، وإن كانت كلمة "مسكين" -هنا- يجب أن تفهم على الأكثر بالمعنى الروحي أي المسكين بالروح.
ويعكس سفر الأمثال موقفًا متوازنًا من الغنى، فبينما يمكن أن يكون الغنى " مصدر أمان (أم 10: 15؛ 18: 11)، ويمكن أن ينقذ حياة الشخص (أم 13: 8)، وهو بركة، مكافأة للسلوك بالحكمة ومخافة الرب (أم 3: 16؛ 10: 22، 24؛ 22: 4)، كما أنه مكافأة للاجتهاد (أم 10: 4). ثم إن "الصيت أفضل من الغنى الكثير" (أم 22: 1). وقد تكون الشهوة الجامحة للغنى سببًا في المبالغة في الثقة بالنفس والكبرياء (أم 28: 11)، وفي الطمع (أم 28: 22)، وفي الغرور (أم 18: 11، 12، 23؛ 11: 28)، وفي الفساد (أم 28: 6)، بل وفقدان الغنى أخيرا (أم 13: 11؛ 22: 16).
ولإدراك موقف العهد القديم من الغنى إدراكًا صحيحًا ، علينا أن نتأمل موقفه من الفقير والضعيف (الأرملة واليتيم والغريب والنزيل).
ويتفق موقف العهد الجديد من الغنى مع موقف العهد القديم، وإن يكن بتركيز أكثر على مخاطر الغنى. فيحذر الرب يسوع من غرور وخداع الغنى، ويقول: "ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله.. ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله. مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله. ولكن.. كل شيء مستطاع عند الله" (مر 10: 23-27؛ انظر أيضًا مت 19: 24؛ لو 18: 25)، ويتردد هذا المعنى في كثير من الفصول، كما في مثل الغني الغبي (لو 12: 13 -21)، والشاب الغنى الذي مضي حزينًا عندما طلب منه الرب يسوع أن يبيع كل ما له ويعطي الفقراء (مر 10: 17-22).
ويصوِّر الرب يسوع الشر الكامن في الغنى، بالقول: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين" (مت 6: 24). ويوصي تلاميذه قائلًا: "اعملوا لكم أكياسًا لا تفنى وكنزًا لا ينفذ في السموات حيث لا يقرب سارق، ولا يبلى سوس، لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا" (لو 12: 33؛ 34؛ انظر أيضًا لو 10: 4؛ 12: 21؛ 22: 36؛ مت 10: 10)، كما قال إن الغنى يمكن أن يكون عائقًا في طريق التلمذة له (لو 14: 33).
ويلزمنا أن نلاحظ أن الرب يسوع لم يأمر كل إنسان بأن يتخلى عن ممتلكاته، فإن الشاب الغني كان شخصًا تسيطر أمواله على حياته، لذلك طلب منه الرب يسوع -فاحص القلوب- أن يبيع ممتلكاته التي كانت كل شيء بالنسبة له، كما أن الرب يسوع كان يعد تلاميذه للمهام الجسام التي كانت تنتظرهم. والرب يسوع -مع ذلك- لم يمتدح الفقر، والأرملة التي ألقت كل ما عندها في خزانة الهيكل، لم يمتدحها الرب لفقرها، بل لسخائها في العطاء وتكريسها الكامل لله (مر 12: 41 -44).
ومع أن الكثيرين من أتباع يسوع كانوا فقراء، لكن لم يكن الجميع كذلك، فقد كان منهم زكا رئيس العشارين (لو 9: 2)، ويوسف الرامي (مت 27: 57)، وبرنابا (أع 4: 37) وغايس الذي كان يضِّيف كل الكنيسة (رو 16: 23؛ 3 يو 5)، وغيرهم. وعندما قال الرب: "طوباكم أيها المساكين" (لو 6: 20؛ انظر أيضًا مت 5: 3). كان يقصد المعنى الروحي كما في سفر المزامير، أي المساكين بالروح.
وكان موقف الكنيسة الأولى متفقًا مع تحذير الرب يسوع من مخاطر الغنى، ويتضح ذلك من أنه "لم يكن أحد يقول إن شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا" (أع 4: 32-35). ولم يكن هذا مثالًا عامًا ليحذوا الجميع حذوه (انظر أع 5: 4)، ولكنه يقدم لنا صورة رائعة للكنيسة الأولى، واستعداد المؤمنين للبذل والعطاء.
ويحرض الرسول بولس المؤمنين أن يشتغلوا، لا لسد أعوازهم فحسب، بل لمساعدة الآخرين في حاجتهم، وأن الرب يسوع قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ "، وجعل الرسول من نفسه قدوة في ذلك (أع 20: 34، 35؛ 2كو 8: 13-15؛ أف 4 : 28). كما يجب ألا يكون الإنسان مستعدًا لشهوة الغنى (1 كو 7: 30، 31).
ورغم أن الرسول بولس أدرك مشاكل الغنى في الكنيسة (انظر مثلًا 1 كو 4: 7، 8) فقد أراد أساسًا أن يعيد تعريف الغنى الحقيقي، بأنه حضور المسيح وعمله في الكنيسة. لقد كان المسيح "غنيًا" ولكنه افتقر من أجلنا لكي نستغني نحن بفقره (2 كو 8: 9؛ انظر أيضًا رو 2: 4؛ 9: 23؛ 10: 12).
ويجب أن تسكن كلمة المسيح "بغنى" في المؤمنين (كو 3: 16)، فهم الذين استغنوا في المسيح في كل كلمة وكل علم (1 كو 1: 5؛ انظر أيضًا 2 كو 9: 11)، والذين أعلن الله لهم " غنى مجد هذا السر" (كو 1: 27)، "وغنى يقين الفهم لمعرفة سر الله الآب والمسيح" (كو 2: 2)، و"غنى مجد ميراثه في القديسين" (أف 1: 18؛ 3: 16). فالغنى الحقيقي إنما هو في المحبة المضحية في المسيح الذي هو المحبة المتجسد (1كو 13: 4 -13) . وكان على الرسول بولس أن يبشر "بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى" (أف 3 : 8).
كما تشمل رسائل العهد الجديد الأخرى تحذيرات جازمة فيما يختص بمخاطر الغنى (يع 5: 1-5)، وضد المحاباة للغنى (يع 2: 1-7)، وضد السعي وراء الغنى، فيقول الرسول بولس: "فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غنية ومضرة تغرِّق الناس في العطب والهلاك، لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة. أما أنت يا إنسان الله، فاهرب من هذا" (1 تي 6 : 8 -11؛ انظر أيضا عب13: 5).
كما يكتب لتلميذه تيموثاوس أن يوصي "الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينة الغنى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع 000 وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة ، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع" (1 تي 6: 17-19).
وقد لا يكون ثمة تحذير أقوى من التحذير الذي وجهه الرب المقام لكنيسة اللاودكيين لأجل فتورها الروحي: "لأنك تقول: إني أنا غني، وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شئ، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفى بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس في يظهر خزي عريتك. وكحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 17، 18؛ انظر رؤ 18: 1-24).
* انظر أيضًا: الوجهاء.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/xbn8tm5