أولًا - في الأناجيل الثلاثة الأولى: إذا اتبعنا العرف الجاري -في العصر الحاِضر- في إطلاق تعبير "ملكوت الله" -بصفة عامة- على تعليم الرب يسوع في الأناجيل الثلاثة الأولى، لوجدنا أن تعليمه الأخلاقي ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي: بركات الملكوت، وطبيعة رعايا الملكوت، ووصايا الملك.
(أ) بركات الملكوت:
(1) طبيعة الملكوت: لم يكن تعبير " ملكوت الله " تعبيرًا إستحدثه المسيح، فقد استخدمه من قبل يوحنا المعمدان، ومن قبلهما استخدمه دانيال النبي في عبارات قوية في سفره (دانيال 44:2، 45؛ 13:7، 14). وترجع فكرة ملكوت الله إلى بداية عصر الملكية في إسرائيل عندما قال صموئيل النبي لمن طلبوا اقامة ملك، إن الرب (يهوه) هو ملكهم، فيجب عليهم ألا يطلبوا ملكًا سواه. وخلال كل تاريخ المملكة اللاحق والذي كان - بصفة عامة - مخيبًا لآمال الأتقياء المحبين لوطنهم، كان الإعتقاد الراسخ الذي يتردد في أفكارهم هو أنه لو كان الله نفسه هو الملك، لسار كل شىء على ما يرام. وعندما انتهت الدولة اليهودية أخيرًا وسُبي الشعب، ظل الأنبياء يذكرونهم بأن المستقبل يحمل في ثناياه الرجاء لوطنهم لو أن الرب "يهوه" تولى أمور الحكم فيهم. وفي الفترة ما بين العهدين القديم والجديد، قويت تلك المشاعر بصورة كبيرة حتى أن "شورر" Schurer جمع من كتابات الأبوكريفا -عن انتظار مجيء المسيا- ما لا يقل عن إحدى عشرة مقالة عما يعتقد أنه كان شائعًا بينهم قبيل مجىء المسيح. ولكنا لا نعلم على وجه اليقين إلى أي مدى تسلطت هذه العقائد على الرأي العام. فكثيرون من الصدوقيين كانوا راضين عن الأوضاع على ما كانت عليه، فلم ينشغلوا بمثل تلك الآمال. أما الفريسيون فقد أفسحوا المجال واسعًا - بلا شك - في أفكارهم لهذه التوقعات المتعلقة بمجيء المسيا، بل كان الغيورون منهم على استعداد للقتال في سبيل هذه الآمال. ومع ذلك علينا أن نرجع إلى طائفة منهم - يوصفون بانهم " المنتظرون تعزية إسرائيل " للبحث عن أنقى صور ذلك التراث . ففي الأناشيد الموجودة في بداية إنجيلي متى ولوقا التي استقبلوا بها مولد يسوع نجد مفهومًا عميقًا ساميًا عن ملكوت الله.
وما أن بدأ يسوع يكرز بالملكوت حتى بات واضحًا أن فكره عن "ملكوت الله" يختلف تمامًا عن فكر سائر الناس، فقد كان فكر معاصريه يتركز على الكلمة الأولى وهي "الملكوت" أما هو فكان تركيزه على الكلمة الثانية وهي "الله". كانوا يفكرون في الأوصاف الخارجية للملكوت كالتحرر السياسي وبناء قوة الجيش، والبلاط الملكي، والأقاليم التي ستخضع للمملكة. أما هو فكان فكره ينصب على إتمام إرادة الله على الأرض كما هي في السماء. وقد حاول الشيطان في البرية، أن يغري يسوع بأبهة ملك العالم لتحقيق آمال أولئك الناس، لكن يسوع رفض ذلك بحسم مقررًا ألا يبدأ خدمته باطار خارجي واسع النطاق ليملأه بالجوهر فيما بعد بل آثر أن يبدأ أولًا بالجوهر. وكان دخوله الظافر إلى أورشليم، دليلًا على تأكيد يسوع لحقيقة أن فيه تتم كل نبوات العهد القديم عن ملكوت الله. ولكن كان من الطبيعي أن يفسر أعداؤه فشل تلك المحاولة كما بدت في نظرهم دليلًا قاطعًا على وجهة نظرهم، إلا أن الله لا يمكن أن يُهزم والمسيح لا يمكن أن يُقهر. فلم ينته ذلك الجيل حتى انهارت دولة اليهود ودُمرت المدينة التي صُلب فيها يسوع . وقامت في كل العالم مجتمعات جديدة يرتبط أعضاؤها برباط أقوى من رباط أي مملكة أخرى، ويخضعون لنفس القوانين، ويستمتعون بنفس المزايا، ويدينون بالولاء لملك يحكم في السموات، وسوف يظهر ثانية ليدين الأحياء والأموات (مت 31:25-46؛ رؤ11:20-15).
(2) تطويبات الملكوت: قد ظن أعداء يسوع أنهم قد حققوا مفهومهم عن ملكوت الله بتلك النهاية المريرة عندما سمروا الرب يسوع على الخشبة، ولكن الحقيقة هي أنه هو وليس هم قد حقق مفهومه لهذه العبارة كصيغة شاملة لكل البركات التي أتى بها للجنس البشري، ومع ذلك استخدم عبارات أخرى لنفس الغرض مثل:الإنجيل، والسلام، والعزاء، والحياة، والحياة الأبدية. وشرحه للتطويبات في بداية العظة على الجبل زاخر بالتعليم. وليس من السهل فهم أعماق هذه التطويبات تمامًا،فكل واحدة منها عبارة عن معادلة، طرفها الأول كلمة "طوبى" والطرف الآخر فيه بعدان مرتبطان معًا ارتباط الشرط والنتيجة، فمثلًا "المساكين بالروح" شرط لنتيجة هي "لأن لهم ملكوت السموات". وقد يحمل الشرط معنى سلبيًا كما في "الحزانى" لكن النتيجة أكثر إيجابية وهي "لأنهم يتعزون" مما يجعل النتيجة "موجبة" بصورة رائعة. ومن الملاحظ أن التطويبتين الأولى والثامنة متفقتان في النتيجة وهي "لأنه لهم ملكوت السموات" مما يدل على أن "ملكوت السموات" هو الاسم الذي أطلقه يسوع على البركة التي أتى بها للعالم. ويمكن اعتبار التطويبات المتوسطة بينهما تفسيرات إضافية لتلك العبارة الرائعة، فهي تشمل مفاهيم عظيمة كالعزاء والرحمة وميراث الأرض ومعاينة الله، والبنوة لله، وهي بكل تأكيد بركات الملكوت. ولا تنتهي القائمة بدون ذكر المكافأة العظمى أو الأجر العظيم في السماء، وهو الرجاء الخالد الذي هو أعظم البركات.
(3)البر ونقائضه: كنا نتوقع من صاحب العظة على الجبل أن يفسر لنا بالتفصيل عبارة "ملكوت الله"، لكن ما حظي بالتفسير هو تعبير "البر". فقد ذكر الرب يسوع أن الجوع والعطش "إلى البر" هما الوسيلة للشبع به. وعندما انتهى من التطويبات، عاد إلى هذا المفهوم عن "البر" ليتحدث عنه باستفاضة.
وليست هناك طريقة لوصف أمر جديد غير مألوف عند السامعين، أفضل من مقارنته بشيء معروف لهم تمامًا. وكان ذلك هو الأسلوب الذي اتبعه يسوع، فقارن "البر" الذي سيبارك به رعايا الملكوت، بصورة الرجل البار المألوف لديهم:
(أ) في أحاديث الكتبة التي كانوا يسمعونها منهم في المجامع.
(ب)في مثال الفريسيين -الذين كانوا يراقبونه- كنماذج للبر. ولعلنا نعرف جيدًا أن يسوع أمكنه من خلال هذا الأسلوب الرائع أن يسبر أعماق الفضيلة، وأن يكشف مقاوميه ويعرضهم للسخرية أمام الكثيرين من الناس الذين كانوا يوقرونهم.
والسؤال الآن هو هل كان المسيح -في نهاية العظة- ما زال يشرح "البر" بمقارنته بالسلوك المألوف للعالم؟ يميل الكثيرون إلى الاعتقاد بأن ذلك هو الواقع، وأن مفتاح القسم الأخير من العظة على الجبل، هو المقارنة بين البر والسلوك الدنيوي. وعلى أي حال، إن التعليم الذي نستخلصه من هذا الحوار هو أن البر الموعود يتميز بثلاث خصائص: (أ)- أنه بر داخلي تمييزًا له عن مظهرية من يعتقدون بأن السلوك الأخلاقي يقتصر على الأقوال الخارجية والأعمال الظاهرة، ولا علاقة له بأفكار القلب الخفية. (ب)- أنه "بر" سري بالمقابلة مع مفاخرة ومباهاة من كانوا يضربون بالأبواق قدامهم عند إعطائهم صدقة. (ج)- أنه "بر" تلقائي مثل الزهرة أو الثمرة التي تنمو تلقائيًا من جذر سليم دون عناء.
(4) نظريات رؤوية: إن استخدام تعبير "البر" محل تعبير "ملكوت الله" في أطول عظة للمسيح، أمر له دلالة واضحة على الاتجاه الذي كان يراه، فقد كان بعيدًا عن أفكار وآمال اليهودية المعاصرة له، إذ من الواضح أنه كان يفرغ فكرة "الملكوت" من العناصر السياسية والمادية ويملأها بالمضمون الديني والأخلاقي.
ويزعم بعض العلماء - في هذه الأيام - أن مفهوم يسوع عن الملكوت، أنه كان مستقبليًا، وأنه كان يتطلع دائمًا إلى ظهور رؤوي له، وهو ما لم يحدث. كما يزعمون أن يسوع كان يتوقع أن تنفتح السموات وينزل منها الملكوت جاهزًا إلى الأرض مثل أورشليم الجديدة المذكورة في سفر الرؤيا (رؤ2:21)، ولكن هذه المزاعم شبيهة تمامًا بموقف الفريسيين ورؤساء الكهنة من يسوع في عصره، فهي تنزل بيسوع إلى مستوى شخص عادي يحلم بالرؤى متجاهلين الكثير من أقواله الصريحة، كما في مثل حبة الخردل الذي يثبت أنه كان يتوقع للمسيحية نموًا وازهارًا كبيرًا، كما حدث فعلًا بمرور الزمن. كما أن هذه المزاعم لا تتفق مع الكثير من أقواله حيث يتحدث عن الملكوت بأنه قد أتى بالفعل، كما في قوله:"ملكوت الله داخلكم" (لو21:17) وهي عبارة سبقها استنكار قاطع لظهور الملكوت مستقبلًا، لأن كلمة "مراقبة" - المستخدمة في نفيه لمجيء الملكوت "بمراقبة" - اصطلاح فلكي يصف تمامًا مثل هذه الظاهرة التي يزعمون أن يسوع كان يتوقع حدوثها (كما يزعم "جون وايس Weiss" و"شويتزر" (Schwetzer) .
(ب) صفات رعايا الملكوت: 1- شروط دخول الملكوت: كثيرًا ما يقال إن "البر" -الموصوف باستفاضة في الموعظة على الجبل- هو شرط الدخول إلى ملكوت الله، ولكن هذا إساءة فهم لفكر يسوع، فـ"البر" الذي يتكلم عنه هو عطية الله لمن هم -فعلًا- داخل الملكوت، داخل الملكوت، لأنه البركة العظمى التي من أجلها يجب أن يطلب الناس الملكوت. والشروط المفروض على من هم من خارج، ليس هو امتلاك البر، بل بالحري الإحساس العميق بالحاجة إليه. فكلما زاد إحساسهم بالحاجة إلى البر، زاد استعدادهم لدخول الملكوت، إذ عليهم أن يجوعوا وأن يعطشوا "إلى البر". وقد لاحظنا من قبل الجوانب السلبية في المرشحين للملكوت في التطويبات، وهذا في الواقع هو وصف يسوع لمن يجذبهم إليه، فهم ينجذبون إليه بإحساس عميق بالحاجة الماسة داخلهم، بادراكهم أنهم يجدون فيه شبعًا وامتلاء، فهو يدعو "المتعبين والثقيلي الأحمال" ليعطيهم راحة.
2- موقف المسيح من الخطية: كان الأنبياء قديمًا يبدأون رسالتهم بإدانة الخطية، ثم تأتي بعد ذلك رؤى عن المستقبل المشرق الذي يلوح في الأفق. وقد تكرر نفس الأمر في رسالة يوحنا المعمدان ثم في أقوال يسوع، إلا أن طريقته في معالجة الموضوع تختلف تمامًا، فلم يستغرق وقتًا طويلًا في إدانة الخطاة الأثمة كما فعل الأنبياء، ولربما كان ذلك لأنه وجد فيما قاله الأنبياء الكفاية، أو لأنه كان يعلم كيف يدفع الخطاة إلى تبكيت أنفسهم. ومع هذا فقد أثبت - في مثل الابن الضال - عمق معرفته بطبيعة ومسار الخطايا الشائعة، فإذا كان قد عفا عن الخطاة الذين لم يكن لديهم ما يبررون به شرهم، فإنه في مقابل ذلك هاجم بقوة وبعنف الذين يخبئون خطاياهم تحت رداء من الرياء. ولم يوجد بين الأنبياء من كشف أولئك الخطاة المرائين كما فعل يسوع (مت 23)، كما وجه لهم اتهامات قوية في مثل الفريسي والعشار. وقد أشار في إنجيل لوقا - بشكل خاص- إلى محبة العالم ومحبة المال بأنهما السوس الذي ينخر في النفس البشرية وينتهي بها إلى الهلاك. وهكذا مارس يسوع عمله كنبي في إدانة خطايا عصره، وأعلن رأيه في الجنس البشري بعامة عندما بدأ حديثه بالقول:"فإن كنتم وأنتم أشرار" (لو13:11). وكذلك عندما وصف قلب الإنسان بالقول:"من القلب تخرج أفكار شريرة..."(مت 19:15).
3- نوال البر: من المعروف جيدًا لكل دراسي الموعظة على الجبل دراسة دقيقة، أن الفكرة الشائعة عنها بأنها تنطوي على ديانة بسيطة وأخلاق سهلة، هي فكرة خاطئة تمامًا، فعلى النقيض من ذلك نجد أن البر الذي نادى به يسوع أسمى بكثير جدًا مما تصوره أي معلم ديني آخر أيًا كان، فهو لم يرغب فقط أن يرفع البشر إلى مستوى أعلى من أي مستوى حاولوا بلوغه من قبل، لكنه في الوقت ذاته كان يعلم أنه يجب أن يبدأ بأناس من أدني مستوى. وهنا يختلف التعليم الأخلاقي عند يسوع عنه عند الفلاسفة، فهو يأخذ الأمر بأكثر جدية، كما أن الصعود من السفح إلى القمة يحتاج إلى وقت أطول، كذلك وسائل البلوغ إلى هذا الهدف أكثر صعوبة، فالفلاسفة -بافتراضهم أن الإنسان سيد مصيره- يضعون مطالب الناموس الأدبي أمامه في الحال مفترضين أن الإنسان قادر على إتمام هذه المطالب، ولكن الطريق الذي ينادي به يسوع طريق أطول ويستلزم اتضاعًا أكثر، فثمة درجات أو مراحل من السهل رؤيتها في تعليمه:
(أ) التوبة: هي أول هذه الدرجات، وكانت التوبة هي شعار جميع الأنبياء، فبعد إدانة الخطية يلزم الندم والتوبة، ولم يكن هناك أمل في إحراز أي تقدم إلا بعد التوبة. وفي رسالة يوحنا المعمدان احتلت التوبة نفس المكانة. ونجد في (إنجيل مرقس 15:1) أن يسوع بدأ خدمته بالمناداة بنفس الشعار الذي ردده يوحنا المعمدان. ومن المناظر المؤثرة في أثناء خدمة يسوع على الأرض، مناظر الخطاة التائبين وهم ينطرحون عند قدميه، ولعل أبلغها تأثيرًا منظر المرأة الخاطئة (لو36:7-50). ونجد في مثل الابن الضال تصويرًا كاملًا لعملية التوبة.
(ب) الإيمان: هو الخطوة الثانية. وقد ترددت كلمة "للإيمان" ومشتقاتها، كثيرًا في أقوال يسوع، وفي كثير من الأحوال كانت ترتبط بأعمال الشفاء التي قام بها، فالإيمان عمل أعمق في النفس. وفي كثير من الأحوال كان الإيمان مقدمة لشفاء الجسد، كما في حالة الرجل المفلوج الذي حمله أربعة رجال، وجاءوا إلى المسيح ليشفيه، لكنه نال إلى جانب ذلك هبة غفران خطاياه، فعند شفائه أعلن يسوع جهرًا سلطانه لمغفرة الخطايا (مت 2:9-8؛ مرقس 3:2-12). وعند تأسيسه للعشاء الرباني أعلن الصلة بين الغفران وموته الكفاري: "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (مت 28:26).
(ج) التشبه بالمسيح والخدمة: كثيرًا ما استبدل يسوع كلمة الإيمان بعبارة "الإتيان إليه" ثم يردف بالقول:"اتبعني" وهذه الدعوة تعتبر الخطوة الثالثة. كان اتّباع يسوع يعني في أحوال كثيرة ترك المنزل والعمل للسير معه من مكان لآخر في تجواله في البلاد. ولما كان هذا يتضمن التضحية وانكار الذات، لذلك كثيرًا ما ربط بين اتّباع الناس له، والدعوة لحمل الصليب، وهي دعوة للتشبه به، وهو نفس المعنى الذي قصده الرسول بولس بقوله: "كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح" (1كو1:11). ومما يستلفت النظر أنه في الموضع الوحيد الذي طلب فيه من الآخرين صراحة أن يتعلموا منه، كان يدعوهم إلى أن يتعلموا الوداعة والتواضع:"تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 29:11). وقد أكد أهمية التواضع مرارًا كثيرة:"لأن من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت 12:23؛ لو 11:14؛ 14:18). ورغم الأهمية التي يعلقها يسوع على التواضع، فإنه يقول لأتباعه مميزًا لهم عن سائر الناس:"أنتم ملح الأرض" "أنتم نور العالم" (مت 13:5، 14)، وأمرهم أن يكرزوا بالانجيل لجميع الأمم ويتلمذوهم، وما يفسر لنا هذا التناقص الظاهري هو فكرة أخرى تميز تعليمه، وهي "الخدمة". فمن يقدر أن يخدم الآخرين على نطاق واسع يصبح في مرتبة أعلى ممن يخدمهم" إذ لديه ما هم في حاجة إليه، ومع ذلك يضع نفسه في مرتبة أدنى منهم ناسيًا مطالبه الخاصة في سبيل قيامه بخدمة احتياجاتهم. وهناك القليل من أقوال يسوع التي تظهر فيها قمة تعليمه الأخلاقي بأوضح من تلك التي يقارن فيها العظمة حسب مفهومه والمفهوم الذي يجب أن يتعلمه أتباعه، بالعظمة حسب مفهوم أهل العالم:"أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون فيكم أولًا، فليكن لكم عبدًا" ومن هذه القاعدة الصعبة، قدم لهم أكمل صورة لها بالقول:"كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدَم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن الكثيرين" (مت 25:20-28).
ومن هنا نعرف أنه وإن كنا نعلم صفات أبناء الملكوت من أقوال يسوع، فإننا نستطيع أن نتعلمها منه كالمثال الكامل، فما طالب به الآخرين، تممه هو في حياته، وهكذا أصبحت الوصايا الجافة في الناموس الأدبي مزدانة بروعة حياته. ومع أن سجلات تاريخ حياة يسوع موجزة، إلا أنها غنية بالتعليم، ومن الممكن بقراءتها ودراستها دراسة متأنية، أن نكوِّن صورة واضحة عن كيف كان مثالًا أعلى في كل جوانب حياته، في البيت، ونحو الدولة، وفي المجتمع، وكصديق، وكرجل صلاة، وكدارس للكتب المقدسة وكشخص متألم، وكمحب للبشر وكرابح للنفوس، وككارز وكمعلم وهكذا.
(د) وصايا الملك: الوصايا العظمى: كان يسوع يطلق "وصايا" على ما نسميه "واجبات"، ومما يسهِّل الأمر علينا أنه جمعها في وصيتين، هما: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها:"تحب قريبك كنفسك" (مت 37:22-39)، وقد اقتبس يسوع هاتين الوصيتين من العهد القديم (تث 5:6؛ لا 18:19) حيث وردتا منفصلتين وقد أهملهما الناس، كما أن تفسير الكتبة للوصية الثانية غض من قيمتها. ولكن المسيح أنقذهما من النسيان وربط بينهما، أي بين محبة الله ومحبة الناس، بعد أن باعد الناس بينهما زمنًا طويلًا فضمهما المسيح معًا ورفعهما لتنيرا في سماء الأخلاق إلى الأبد كالشمس والقمر، تعلنان ما يجب على الإنسان:
1 محبة الله:أنكر بعض من كتبوا عن علم الأخلاق المسيحي وجود مثل هذه الواجبات نحو الله، كما استنكر بعض من كتبوا عن الأخلاق من الوجهة الفلسفية أن تدخل "محبة الله" في مجال علمهم. إلا أن واجب الإنسان يتصل بكل من له علاقة بهم، وبخاصة الرب يسوع الذي يجب أن يتجه إليه الإنسان بكل قلبه لأنه مصدر وجوده ومنبع كل بركاته، لذلك يبدو تدفق القلب نحوه أمرًا طبيعيًا بل إنه أكثر الأعمال تلقائية. "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" (مز 1:116) هذا ما قاله المرنم تغبيرًا عن محبته "ليهوه". ولم يكن نوعًا من الصور البلاغية أن يطلب يسوع من الناس أن يحبوا الله أباه من كل القلب والنفس والفكر.
ومن أكثر الادعاءات شيوعًا، القول بأن يسوع لا علاقة له بتأسيس الكنيسة أو بوضع نظامها، ولكنه قول يدل على جهل واضح يتعامى عن حقائق الموضوع. كان يسوع يعلم أن عبادة العهد القديم أوشكت على الانتهاء، وكان هو نفسه الذي سيستبدل نظام العهد القديم بنظام أفضل. ولو كان كل ما عمله أنه عبَّق الجو بأريج من الضياء وأضفى عليه عذوبة ورواء، فحسب، لكانت المسيحية قد اندثرت، ولكنه خلق قنوات يمتد تأثيره خلالها إلى الأجيال التالية المتعاقبة، فهو لم يؤسس الكنيسة فحسب، بل ورسم أهم التفاصيل لتنظيمها كالكرازة والفرائض المقدسة، وترك الاثني عشر تلميذًا بعده، لا كمعلمين فقط بل كقادرين على تعليم معلمين آخرين أيضًا. وقد تكون ثمة ترتيبات كنسية تجري بروح بعيدة عن محبة الله وهو أمر مضاد لفكر المسيح لكن متى كانت محبة الله قوية، فلابد أن تسيطر على كل أمور الله إذ لا يمكن أن تدوم بدون هذه المحبة.
2 الواجب نحو الإنسان: إن أقوال الرب يسوع عن تفاصيل الواجب نحو الإنسان كما أشرنا من قبل أقل عددًا مما كان متوقعًا، ولكن وإن كانت قليلة في العدد، فإن ما يعوض ذلك هو ما فيها من أصالة وشمول، فكثير من الأقوال الفريدة، كالقاعدة الذهبية: "فكل ما تريدون أن يفعل بكم الناس افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت 12:7)، مع كلمته الرائعة عن كأس ماء بارد يقدم باسم المسيح (مت 42:10). هي أقوال ثورية في التراث الأخلاقي. وكذلك العديد من أمثاله كمثل السامري الصالح، والابن الضال، والعبد البطال. كما أن الوصية بالمحبة، والصفح عن الإساءات (مت 43:5-48) وإن لم تكن جديدة تمامًا، إلا أنها حظيت بأهمية لم تكن لها من قبل. وقد نطق الرب يسوع المسيح بهذه الأقوال بهدف السعي لخلاص الناس من الأنانية ومحبة العالم ليخلق فيهم عاطفة إلهية لخير رفقائهم في البشرية، إما بالمعونة المالية متى لزم ذلك أو بإظهار العطف والمشاركة الوجدانية، وفوق كل شيء بتقديم الإنجيل لهم.
وبالإضافة إلى تلك التوجيهات المتعلقة بسلوك الإنسان نحو أخيه الإنسان، نجد بين كلمات الرب يسوع أقوالًا مأثورة خالدة عن السلوك في الحياة، وفي الأسرة، ونحو الدولة، وفي المجتمع. وكان يسوع يعلم الجموع بالقدوة أكثر مما بالوصايا والأقوال، وقد تمم كل بر كابن وكأخ وكصديق، وقد حدد كمعلم ماهية البر، فاعترض على إباحة الطلاق الذي كان سائدًا في عصره مشيرا إلى المثال الطاهر في جنة عدن. وقد غيًّرت نظرته للمرأة، ورقته تجاه الطفولة فكر الناس بخصوصهما تمامًا. كما كان يسوع محبًا لوطنه يشيد بجمال الجليل موطنه، ويبكي على أورشليم. ومع أنه تعرض للاضطهاد الدائم من السلطات من المهد إلى الصليب إلا أنه لم يطع هذه السلطات فحسب، بل كان يأمر الآخرين بطاعتها أيضًا. وقد شجب أصحاب الوزنات والمواهب، الذين يطمرونها، ودعا كل إنسان أن يسهم بدوره في خدمة المجتمع. كما أقر حق كل إنسان في أن يجني ثمار عمله "لأن الفاعل مستحق أجرته" (لو7:10).
ورغم أن وصايا يسوع لا تقدر بثمن فيما يتعلق بأمور الإنسان، كما فيما يتعلق بأمور الله، فعلينا أن نبحث عن الأصالة الأخلاقية في هذه الوصايا وفي الدوافع الجديدة التي كشف عنها لإتمام مشيئة الله كما بيَّنها وأوضحها. كما يسَّر علينا أن نحب الله بإعلانه محبة الله لنا، كذلك يسَّر علينا أن نحب الإنسان بإظهار قيمة الإنسان كمخلوق خالد جاء من عند الله والى الله مآله. ومهما عُمل مع الإنسان من خير أو شر، فإن يسوع يعتبره كأنه صُنع به هو. فالقول الرائع الذي ذكره في مشهد الدينونة (مت 31:25-46) مع انطباقه على المسيحيين في المقام الأول، إلا أنه يمكن أن يمتد ليشمل جميع الناس، فنتيجة طبيعية لأبوة الله، لا بُد أن يكون جميع البشر أخوة، والوصية العظمى الثانية تستند على الوصية الأولى العظمى.
ثانيًا في الإنجيل الرابع:
1 الحياة الأبدية: يحتل مفهوم "الحياة الأبدية" في إنجيل يوحنا مكان مفهوم "ملكوت الله" في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فقد استخدم يسوع تعبير "ملكوت الله" للدلالة على كل البركات التي أتى بها هو إلى العالم في الأناجيل الثلاثة الأولى، ولكننا نلاحظ أيضًا أن هذه الأناجيل تستخدم من وقت لآخر كلمة "الحياة" مرادفًا "لملكوت الله"، وسبب تفضيل يوحنا لعبارة "الحياة الأبدية" قد يرجع إلى تكوينه الخاص، أو إلى البيئة الأممية التي كتب فيها إنجيله، لكن العبارة معبرة وبناءة إلى أبعد حد، وقد حفرت لها مكانًا عميقًا في اللغة الدينية من قبل عصر المسيح. وفي الحقيقة نجد في كل جزء من الكتاب المقدس هذه الحقيقة، وهي أن الانفصال عن الله هو موت، وأن الاتحاد به حياة.
2 مصدر الحياة الأبدية هو الله: وفي أقوال الرب يسوع كما في إنجيل يوحنا نجد أن العالم في قبضة الموت لأنه انفصل عن الله. والبشر جميعًا محكوم عليهم بالهلاك الأبدي عقابًا على خطاياهم، لكن "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 16:3).
3 الحياة الأبدية في الابن: هذه الحياة هي في الله أولًا، فهو يسكن في نور لا يدني منه، لكن ليس معنى ذلك أنها حياة ساكنة لكنها حياة جياشة متدفقة مانحة للحياة. كما أن الحياة الأبدية هي أيضًا في الابن "لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته" (يو26:5)، وهذه الحياة أيضًا حياة متدفقة يمنحها للمحرومين منها، ولهذا صار الابن جسدًا وحلَّ بيننا ومنحنا الحياة بكلمته لأنها "كلام الحياة الأبدية" (يو 68:6). فكلمات يسوع الواهبة للحياة هي "نور العالم" وهي "الحق". و"النور" و"الحق" كلمتان تترددان كثيرًا في هذا الإنجيل، فالذي تتحدث عنه هذه الأقوال هو النور والحق، فقد قال:"أنا هو الطريق والحق والحياة" وهو موجود في كلمته، فعندما نقبل كلمته حقًا يدخل المسيح بشخصه في قلوبنا "أنتم فيَّ وأنا فيكم" (يو 20:14). وكما أن الطعام يدخل الجسم ليحفظ الحياة، هكذا المسيح فهو حياة النفس لأنه خبز الحياة وماء الحياة (يو 35:6). وكما أن الخبز لا بُد أن يكسر قبل أن يؤكل، والماء يجب أن يصب ليُشرب، هكذا لا يصبح استحقاق ابن الله متاحًا لنا إلا بموته:" أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 51:6).
4 الحاجة إلى ميلاد جديد: العالم ميت بالخطية ولابد من ميلاد جديد لمن يدخل إلى الحياة. وهو أمر ضروري حتى بالنسبة لذوي الأخلاق الفاضلة مثل نيقوديموس (يو 3:3، 5، 7)، فبدون هذا التغيير لا يدرك بنو البشر الإعلان الإلهي، حتى من كان لهم امتياز الاستمتاع بإعلان العهد القديم، لم يبالوا بالحياة الأبدية عندما قُدمت لهم في شخص المسيح، بل لقد وجد المسيح منهم أعنف مقاومة وأقسى عداء.
إن الميلاد الجديد تصحبه رؤيا روحية إذ "يرى ملكوت الله" (يو 3:3). وفي كل الإنجيل الرابع نجد تأكيدًا ملحوظًا على هذه الرؤيا أو المعرفة التي تؤدي مباشرة إلى الإيمان حتى إن الفعلين "تعرف" و"تؤمن" متلازمان (يو 38:10). فالإيمان هو قبول الحياة الأبدية داخل النفس، أي قبول المسيح، الذي أراه بالإيمان في رؤيا روحية، والذي هو نفسه الحياة. إن الإيمان يعني الأكل من خبز الحياة، والشرب من ماء الحياة، فهو الذي به نحيا.
5 طبيعة الإيمان:وحيث أن الإيمان هو الوسيلة التي بها نمتلك الحياة الأبدية، فهو أكثر شيء نحن في حاجة إليه، وفيه تجتمع كل الوصايا "هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (يو29:6)، إنه الوصية الفريدة الجامعة لكل الوصايا، وهو "العامل بالمحبة" لإتمامها جميعها. ولا يذكر إنجيل يوحنا إلا القليل عن ماهية هذه الوصايا، لأن من خصائص فكر يسوع كما جاء في إنجيل يوحنا أن يعالج المباديء الأساسية باعتبار أن النتائج سوف تتوالى طبيعيًا.
وما جاء في إنجيل يوحنا عن تنظيم الجماعة التي ستواصل رسالته بعد تركه العالم، أقل بكثير مما جاء في بقية الأناجيل، ومع ذلك يصف جوهر الكنيسة التي هي جسده في عبارات قوية: "أنا فيهم وأنت فيًّ ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني" (يو 23:17). وفي النصف الثاني من هذه العبارة إشارة لتأثير الشهادة المسيحية على العالم الخارجي، ليقودوا العالم إلى الإيمان إذ يرى حياتهم السامية ومحبتهم الصادقة ويستمع لأقوالهم عن المسيح:"يؤمنون بي بكلامهم (كلام التلاميذ)" (يو 20:17).
وهكذا يقول يسوع: "ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد" (يو 16:10). وفي داخل الحظيرة، نجد أن أعظم امتياز واكبر شرف وأخطر مسئولية هي إطعام الخراف والحملان (يو 15:21، 16، 17).
6 ثمار الاتحاد بالمسيح: إن محبة المسيح هي أساس السلوك المسيحي، فهو يقول لتلاميذه: "إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي" (يو10:15)، ولذلك صلى لأجل التلاميذ حتى يُحفظوا من الشرير في العالم، وحتى يتقدسوا في الحق (يو 15:17، 17)، ولا شك في أنه توقع منهم أن يطلبوا نفس الشيء لأنفسهم لأن حياتهم يجب أن تكون حياة صلاة (يو 24:16). ولكن هذه كلها ثمر الاتحاد بالمسيح، وليست الحياة الأبدية مجرد عطية من عطايا المستقبل تمنح للمؤمن عند موت الجسد، بل إن كل من يثبت في الكرمة يتمتع بالحياة الأبدية منذ الآن.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/y27gb6a