في بداية سؤال قلت كلمة "تتحدث عنكم"، فهذا يعني أنك غير مسيحي.. لا أقصد شيئًا سوى أن السؤال يوضح أن السائِل ينظر إلى النص كنص حرفي بدون ما قبله وما بعده، وما يتعرض لهذا الموضوع في كتاب الله، والمعاني المقصودة منه.. إلخ. ولكن بالطبع أمر محمود جدًا أنك تسأل أصحاب الأمر فيما يدور في بالك، ولا تذهب إلى مَنْ قد يكون لا علاقة له بالمسيحية لتسأله الجواب..
سنقسِّم الرد على هذا السؤال هنا في موقع الأنبا تكلا لقسمين.. أولهما عن طريقة فهم آيات الكتاب المقدس ومعاني الكلمات، ثم عرض لهذه الآيات وشرحها..
إن الكتاب المقدس ليس هو مجرد آية أو آيات، وإنما هو روح معينة تتمشى في الكتاب كله.
الشخص البسيط يضع أمامه آية واحدة، أو أجزاء من آية، فاصلًا إياها عن ظروفها وملابساتها وعن المعنى العام كله، أما الباحث الحكيم، الذي يتوخى الحق فانه يجمع كل النصوص التي تتعلق بموضوع بحثه، ويرى على أي شيء تدل.. لا يأخذ آية واحدة من الإنجيل ويقيس عليها حياته في حرفية..
المعنى الرئيسي للكلمة هو الرجل الذي جُرِّدَ أو حُرِمَ من قواه الجنسية.. وستجد في قسم قاموس الكتاب المقدس هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت عرضًا تفصيليًا لمعنى كلمة الخصي أو الخصيان، والأماكن التي ذُكِرَت فيها في الكتاب المقدس..
الكلمة العِبرية للخصي هي סריס "ساريس"، وهي تحمل معنيان.. أحدهما المعنى الحرفي، والآخر يُقْصَد به الذي كانوا ذوي رتب معينة في القصر من خدام أو موظفون لم يكونوا مخصيين بالمعنى الحرفي.. وقد رأينا مثلًا الخصي الحبشي الذي يقول عنه التقليد الإثيوبي أنه لم يكن خصيًا "حقيقة" بل "مركزًا"، إذ إن الكلمة قد تدل على مَنْ يشغل أحد المراكز الرفيعة في بلاط الملكة؛ إذ لو كان "خصيًا" لما جاز له أن يسجد في الهيكل في أورشليم (سفر التثنية 23: 1).
المعنى الثالث وهو المعنى الرمزي، وقد ذُكِرَ في إنجيل متى: "لأنه يوجد خصيان ولدوا هذا من بطون أمهاتهم. ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل" (مت 3:19-12)، وليس المقصود أنهم خصوا أنفسهم حرفيًا (وهو ما ظنه البعض، كم فعل أوريجانوس، ثم عاد وأدرك خطأه)، ولكن المعنى والمقصود هو أنهم امتنعوا عن كل شهوة جنسية تحارب النفس (1بط 11:2)، ليتفرغوا بكل طاقاتهم وأوقاتهم لخدمة الرب كما فعل الرسول بولس (1كو 5:9، انظر أيضًا 1كو 25:7-33) وهذه النصرة الناتجة عن ضبط النفس أعظم بما لا يقاس من الحالة السلبية وغير الإنسانية... في الخصي الحرفي.. وحتى في العصر البيزنطي المسيحي، كانت الكلمة تُطلَق على هؤلاء الذين لا يهتمون بالأمور الزمنية، كما تقول الباحثة كاثرين رينجروز Kathryn Ringrose.
تقدِّم الشريعة في سفر التثنية 23 قائمة ببعض المحرومين من الدخول في "جماعة الرب"، حتى تبقى الجماعة مقدَّسة للرب. لكن ماذا يعني بجماعة الرب هنا؟ يرى البعض أنَّه يقصد هنا "شعب الله أثناء خدمتهم الدينيَّة". لم يقصد حرمانهم من خلاص أنفسهم وتعبُّدهم للرب، إنَّما حرمانهم من التمتُّع بكمال الحقوق، مثل استلام مسؤوليَّات معيَّنة أو الدخول إلى المقادس والشركة الكاملة مع الجماعة. يعني حرمان هذه الفئات من تولِّي مراكز قياديَّة في وسط الشعب، فلا يكون أحدهم شيخًا من شيوخ إسرائيل ولا قاضيًا. ويرى آخرون أن المقصود هنا مجرَّد الامتناع من الزواج منهم، فلا يتم زواج مختلط بينهم وبين الإسرائيليِّين.
كان لهذا التعليم الخاص باستبعاد المخصيِّين من جماعة الرب أهميَّته الخاصة في ذلك الحين، إذ كان شائعًا بين الأمم أن يخدم جماعة من المخصيِّين الهياكل الوثنيَّة، وأيضًا الذين يحتلُّون مراكز عظيمة في القصر الملكي، خاصة الذين يخدمون في جناح الملكة وجناح النساء، حتى أن كلمة "الخصيان" סריס صارت تطلق على أصحاب المراكز في القصر حتى وإن كانوا ليسوا مخصيِّين جسديًا.
مُنع المخصيُّون من الكهنوت (لا 21: 17-21) وأولادهم حتى الجيل العاشر، لتأكيد قدسيَّة كل أعضاء الجسم. فقد جاء هذا القانون لكي يمنع الإنسان من أن يخصي نفسه، خاصة إن كان بسبب نظرته إلى الأعضاء الجنسيَّة كأعضاء دنسة، أو أن العلاقات الجسديَّة في الزواج نجاسة، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وقد حرَّمت الكنيسة على الذين يخصون أنفسهم حتى إن كانوا بتوليِّين من نوال أيَّة درجة كهنوتيَّة، ذلك لأنَّهم يدنِّسون النظر نحو ما خلقه الله صالحًا ومقدَّسًا.
من هنا – حتى في العهد القديم – لا يُحرم الخصي من عضويَّته في جماعة الرب إن كان مقدَّسًا للرب. وكما جاء في سفر إشعياء: "فلا يتكلَّم ابن الغريب الذي اقترن بالرب قائلًا: "إفرازًا أفرزني الرب من شعبه. ولا يقل الخصي ها أنا شجرة يابسة. لأنَّه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي ويختارون ما يسرُّني ويتمسَّكون بعهدي. إنِّي أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصيبًا واسمًا أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 3-5).
واضح أن ما يشغل ذهن الله ليس الشكل الخارجي مثل أن يكون الإنسان خصْيًا أم لا، إنَّما الأعماق الداخليَّة، حيث يختبر الخصي حفظ السبت، أي التمتُّع بالعيد الأسبوعي والفرح المستمر في الرب، وتقديس السبت كعلامة على تقديس العمر كله لحساب الرب. من يختار أن يسر الله ويتمسَّك بعهده، أي يود أن تكون له شركة دائمة معه، مثل هذا يُحسب ابنًا (أو ابنة) لله أكثر من غيره ويكون له نصيب في بيت الرب، ويتحصَّن بأسواره.
وخلاصة القول أن في تلك الأثناء كان مشهورًا عن الخصيان أنهم هم خدام الهياكل الوثنية، لهذا السبب مُنِعوا من الدخول في جماعة الرب، ولكن الذين هم مؤمنون حقيقيّون، فالله لا يهتم بجسدهم وشكله مادام ليس بإرادتهم الشخصية احتقارًا للجسد الذي أعطاه لنا الله، بدليل أنه يقول: "لاَ يَقُلِ الْخَصِيُّ: «هَا أَنَا شَجَرَةٌ يَابِسَةٌ». لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِلْخِصْيَانِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ سُبُوتِي، وَيَخْتَارُونَ مَا يَسُرُّنِي، وَيَتَمَسَّكُونَ بِعَهْدِي، إِنِّي أُعْطِيهِمْ فِي بَيْتِي وَفِي أَسْوَارِي نُصُبًا وَاسْمًا أَفْضَلَ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. أُعْطِيهِمِ اسْمًا أَبَدِيًّا لاَ يَنْقَطِعُ" (سفر إشعياء 56: 3-5). فوضعهم الله -إن كانوا يتمسكون بشرائعه- في مرتبة حتى أفضل من الآخرين..
مرجع: كتاب قاموس الكتاب المقدس.
مرجع: تفسير تثنية 23 - القمص تادرس يعقوب ملطي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rq26n9m