هذه التيارات جميعها جعلت الغرب الأوروبي ينشغل عن الكنيسة وتعاليمها وقيودها، ويتجه نحو حياة أكثر حرية وأرحب أفقا وهكذا أحباء وقت اخذ صالح الدولة يبدو أكثر كراهية من صالح الكنيسة، كما بدأ يسري شعور بان واجب الفرد نحو دولته ووطنه ينبغي، يسبق واجبه نحو الكنيسة، مما جعل السياسة العلمانية تشكل خطرًا جسيمًا على السياسة الكنسية.
وهناك فترة في القرن الرابع عشر ظهر فيها تدهور نفوذ البابوية واضحًا بحيث لم يبق لها سوي القليل من سلطانها الواسع الذي كانت عليه في القرن السابق وهذه الفترة ما بين سنتي 1305-1377 التي يطلق عليها الإيطاليون الكاثوليك فترة (الأسر البابلي) حيث كانت البابوية خلالها مقيمة في افيينون شبه أسيرة بحكم خضوعها للملكية الفرنسية، بعيدة عن مقرها التقليدي في روما، وكانت مسبية تماما كما كان الشعب اليهودي مسببًا في أرض بابل لمدة سبعين سنة في العهد القديم.
وأول الباباوات الذين عاصروا فترة السبي هو البابا كلمنت الخامس Pope Clement V وقد اختاره الكاردينالات لمنصب البابا، لأنه كان واحدًا من أنبل الرعايا الذين كانوا يدينون للملك إدوارد الأول ملك انجلترا، وكانوا يعتقدون أنه لهذا السبب سيسلك سبيلًا مغايرًا للخط الذي يريده ملك فرنسا، مضحيًا في سبيل ذلك بالكثير.
وقد أعلن هذا البابا في اجتماع في عام 1309 أنه قد نقل مقرة إلى اقينون على ساحل الرون وهي مدينة لا يفصلها عن فرنسا سوي مجري النهر وبقاء البابا في هذا المنفي الاختياري أفقد البابوية تأثيرها ومكانتها في أذهان الناس وضمائرهم، وكان الانتقال إيذانًا بضياع نفوذ البابوية وسلطانها وكان هذا رد الفعل لدي الرأي العام في كل مكان في أوروبا حتى لدي أولئك البسطاء الذين لم يكن لديهم أدنى حظ من الثقافة أو القدرة على التفكير.
ولقد لعبت السلطات الحاكمة في فرنسا الدور الأكبر في الحط من قدر البابوية في نظر الناس بجانب ما نالها من تحقير، نتيجة للفساد الذي كان قد امتد إلى القصر البابوي نفسه كما خسرت البابوية البقية الباقية من الكرامة بسبب الطمع الشديد الذي اتسم به باباوات افينون.
وكانت أوروبا قد عانت الكثير في ظل بابوية العصور الوسطي، وآن لها أن تتمرد، وبدلًا من حالة الضياع والاتضاع والخضوع التي سادت عليها في فترة طفولتها السياسية بدأت تتململ، إذ أحست أنها تخطت مرحلة الطفولة إلى مرحله النضج الفكري.
وقبل أن نسترسل فيما أصاب البابوية لنا وقفة لدى الفرق الكبير بين أحوال الكنيسة الكاثوليكية في الغرب الأوروبي وبين أحوال كنيستنا في مصر في هذه الفترة، ففي الوقت الذي انفجرت الكنيسة الأوربية من شده الشبع وتخمة الأرصدة المالية والنفوذ السياسي والروحي، كانت كنيستنا تحت وطأة الضغط السياسي والاجتماعي عليها يأكلها الفقر وينهشها الاضطهاد. ورغم كل هذا كانت تخرج من داخلها جددًا وعتقاء.. أباء حاذقون في العبادة لهم صلواتهم ولهم مؤلفاتهم في كل نواحي المعرفة الدينية والعلمية، والتصقوا بالشعب وشجعوه على ما كان يعانيه، وقدموا له الزاد الروحي والتشجيع الأدبي.
أنتجت الكنيسة والمجتمع المسيحي في مصر إنتاجا غزيرًا من الروحيات وحافظت على التراث، بل وأضافت إليه أن فسرت الكتاب والأهازيج والتراتيل الروحية. وقد فاضت الصحراء بالرهبان وزاد عدد المصلين في الكنائس، وكأن الضغط عليها جعلها تفرز زيت البركة الذي رصدته لنعيش الآن على بركته. ولم يكن هناك فاصل بين رجال الدين وبين الشعب أو اختلاف، ولم يبرح الكتاب المقدس أيدي العامة في حين حرم عليهم في أوروبا امتلاكه.
لم تكن كنيسة تقودها ملائكة وإنما كان من بين قادتها من كانوا أصحاب سلبيات ولكن كان الشعب هو الواعي والحكم وكانت الأراخنة في الكنيسة يتعادلون في جب معهم لتسير الكنيسة في مجراها السليم.
أننا ندرس تاريخ الكنيسة في أوروبا لا للتشفي ولا لكشف عورة كنيسة شقيقة، وإنما لتكون مقياسًا لنا لنعرف أين نحن من الحق ونعرف الحق والحق يحررنا. ثم كان أن تدهور مركز البابوية وتدهور واضحًا من القرن الرابع عشر نتيجة للأسر البابلي والانشقاق الديني الأكبر والمجامع الدينية التي وقفت من البابوية موقفًا عنيدًا، مما ترتب عليه نمو الحركات الهرطقية وازدياد عدد أتباعها، ولم تكن كل هذه الحركات التي ظهرت على المسرح الأوروبي في القرن 14 جديدة وإنما كان بعضها قديمًا مثل الوالدنسيون الذين تم إخماد حركتهم في القرن 12 في جنوب فرنسا قرب الحدود الأسبانية ولكنهم ظلوا أقوياء في المناطق الواقعة شرقي نهر الرون حيث كان مركزهم الرئيسي حول مدينة ليون. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وكذلك كان الالبيجنسنيين ينتشرون في غرب أوروبا مرة أخرى، وظهرت هناك حركة أخرى شهدها غرب أوروبا في القرنين 14، 15 هي حركة السياطيين التي جاءت وليدة الذعر الذي أصاب الشعب عند انتشار الطاعون، واعتقدوا أن هذا الوباء الأسود مظهر الغضب وأنه لا سبيل إلى النجاة من ذلك الغضب إلا بتعذيب النفس وضرب الجسد بالسياط، وقد بلغ هذا التعذيب درجة من التطرف جعلتهم يضربون أنفسهم بسياط ربطت أطرافها بقطع من الحديد معتقدين أن مَنْ يواظب على هذه العملية 33 يومًا ونصف يوم فإنه يضمن تطهير نفسه من جميع ما تعلق به من الآثام، وهكذا انتشرت جماعة السياطيين رجالًا ونساء يوقعون على أنفسهم هذا الجزاء ويقتلون كل من يعارضهم من اليهود أو رجال الكنيسة حتى صدر قرار بابوي بالقضاء عليهم عام 1249 وأن كان قد ظلت مستمرة حتى القرن 15.
ولكن هل كانت الكنيسة التي سارت إلي طريق مسدود بهذا الشكل لم يكن فيها من يصلحون من شأنها؟
لا بل كان فيها من حاولوا ذلك.
1- برنارد كليرفو |
تاريخ كنيسة الغرب د. يواقيم رزق مرقص |
35- الأسر البابلي للكنيسة |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vv95kf5