الميمر الأول(2)
و... ما هي حياتكم. إنها بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل" (يع 4: 14).
ينبغي لنا أن نحزن لأن نسيج حياتنا يبلى كل يوم، الأيام تجري لتطردنا من الدنيا ونحن لا نسرع إلى عمل الحسنات وهذا هو الحزن الكبير أن أيامنا تجري إلى الوراء والخطايا إلى الأمام. الحياة تنقضي والذنوب تكثر، ونحن كمثل بيت كثير المصروفات وليس له من إيراد فهذا سريعًا يخرب، الأيام والليالي دائبة تجري فتنقص من أعمارنا، النهار يدفعنا إلى الليل والليل يدفعنا إلى النهار، ليس لنا اليوم الحياة التي كانت لنا أمس، قد قصرها الليل الذي يجيء ويذهب ونحن غافلون.
أعلم أيها الإنسان لو أنك أعطيت جميع مالك على أن تقتني الحياة التي كانت لك أمس فلن تقدر لأنها جازت مع أمس - ذهبت فلا ترجع ولا يرجع الماء إلى المعين ولا ترجع الشمس إلى الوراء ولن يكف جرى الكواكب ولن يكف جرى الطبائع السريع وكلها تدفعك إلى الخروج من الدنيا. من المَشْرِق يطردك الصباح والمغرب يجرك إلى المساء، الساعات ترمي بِك بعضها إلى بعض وكلها من حياتك، تنقضي السنة وقد نزعت من حياتك، يحل الشهر وهو يكمن لك في أوله وفي تمامه ينقص من عدد أيام حياتك.
أمورك سريعة وطالبوك كثيرون، وحياتك تميل مثل الماء في الانحدار ومثل الظل السريع الزوال التوبة فيه أبطلت وقامت في البعد، أما الخطية فإنها في كل يوم تعمل للقرب، غذاؤها أنك زعمت أنك تتوب لكن يوم توبتك أراه بعيدًا جدًا، وقد لا يأتي اليوم الذي فيه تتوب. هو هذا الذي فيه تفرح، أيام كثيرة قد جازت ويوم توبتك ما أراه يأتي، وقد يأتي يومك قبله.
أجعل اليوم يوم توبتك لئلا يأتيك الموت في هذه الليلة الأمر الذي قد تهيبت أن تفعله أبدأ به الساعة. إن تحركت فيك فكرة صالحة لا ترقد حتى تبدأ في عملها، أيام حياتك ليست لك ولا تعرف كم عددها ولست تدري متى يدركك الموت، لست تدري اليوم ماذا يأتيك به الليل المقبل، فمن الآن أسرع قبل أن يسوقك، إجر لئلا يدركك، أسرع قبل أن يحبسك، لكنك حتى الآن تريد أن تتوب وتعد كعادتك بأنك سوف تتوب فإن كنت تسوف بالتوبة فضع للموت حدًا ووقت له وقتًا ومره ألا يأتيك حتى تبعث إليه لتشبع من الخطية ثم تتوب متى أردت، لكن اعلم إن الموت لن يسمع لقولك ولا يجيب طلبتك ولا يصدق كلامك لأنك قد كذبته مرارًا كثيرة وحتى الآن لم تبدأ بالعمل. القول لعمري هين، أنت كل يوم تقرر أنك ستتوب، فمالي أراك لا تعمل شيئًا!!
"من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتُلقَى في النار" (متى 3: 7-10).
من الآن دع القول... وابدأ العمل، انظر إلى الأيام والليالي. ما أسرعها وهي حريصة في أمورها لا تتكلم... هل تقول الشمس إنها تضيء؟، ليس بكلمتها تضيء العالم لكن بعملها، لو أن الصبح بعث إليك أنه آت ولم يأت ماذا كنت تصنع بالليل لانه لا يكاد يذهب حتى يبزغ الضوء.
ليس بالكلام تنفذ الأعمال لكن بالأعمال تقوم الخليقة، الشمس تنير وتضيء الأرض من غير أن تتكلم وأنت أيضًا ينبغي ألا تتلم من غير أن تعمل، لكن أعمل ولا تتكلم.
اليوم هو لك أما الغد فلست تدري لِمَن يكون، انظر إلى النهار ما أسرع ذهابه!! فاحرص أن تذهب معه خطاياك، لا تغمض عينيك للرقاد حتى تفتح قلبك للصلاة، بالعشاء إبتعد عن خطاياك وبالغداة أظهر صلاحك، لا يمكن قولك بعيدًا عن عملك، قبل أن تقول تهيأ العمل، إن تحركت فيك فكرة صالحة فمن ليلتك إبدأ بعملها واغتنمها، وإن تحركت فيك فكرة الحسنات فمع طلوع الشمس إبدأ بعمل الصلاح واحذر عمل الشر، لا تتعب في شيء ليس هو لك وتضيع شبابك باطلًا، لا يكن قلبك منشغلًا فيما يفنى عازفًا عن العمل النافع.
الحياة سريعة تذهب، والموت سريعًا يجيء، الزمان سريع الذهاب وهر متعجل أن يجوز ما خلا يوم توبتك فلا يريد أن يأتي، أنه قاس لا يلين.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
"لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين في الدعارة والشهوات..." (بط 4:3).
في شبابك كنت تقول أتوب إذا ما كبرت فمضى الشباب وجاء الكبر ولم تتب...! أفنيت أيام شبابك بأوجاع الشهوات والذنوب، وعندما كبرت لا ترغب أن تتوب، من يوم إلى يوم تطرد التوبة وأظنها قد هربت منك، في شبابك قلت أبقى حتى أصنع هواي وأتوب، فها الآن قد كبرت، اطلب التوبة قبل أن يطلبك الموت فإن بعد الموت ليست هناك توبة، الأيام التي مضت تخبرك عن الأيام التي تأتي، الأولى لم تختبئ...، والأخرى لا تبقي...، قد كنت بعيدًا عن يومك فجاء فأدركك... وها هو أيضًا مسرع إلى الذهاب كما ذهبت الأيام الخوالي.
انظر لنفسك قبل أن يجوز يومك، واذكر أن شبابك لن يدوم، تعبر الأيام مثل الظل ومعها تنقضي حياتك.
أطلب إلى الزمان أن يقيم فإن فعل فاغفل عن التوبة...! كما ينقضي النهار كذلك تنقضي حياتك وكما يذهب الليل كذلك تذهب. النهار يشبه شبابك والعشية تشبه كبرك فاغتنم عملك ما دام نهار، أسرع قبل أن تدركك الظلمة.
"لأن التراب في القبر لا يسبح، وليس في الموتى من يذكر ولا في الجحيم من يشكر، بل انهضي يا نفسي من رقاد الكسل وتضرعي إلى المخلص بالتوبة قائلة: اللهم ارحمني وخلصني" (صلاة النوم)
انظر إلى الأيام كيف تذهب وإلى الأزمان كيف تتغير، هي الأيام مثل الموتى، بالأمس ذهبت وهم ذهبوا، اليوم ينقضي والغد لا تدري هل نبلغه... أقبل على يومك واغتنمه فإنه منطلق، تخطف الأيام من الحياة، إذا قبرك المساء أقامك الصبح، فليكن في كل يوم موت لكيما تتذكر أنك ستموت.
مضت الحياة التي كانت بالأمس ولن توجد، وحياة اليوم مسرعة في الذهاب راقدًا كنت أو مستيقظًا فإن الليل لا يكف عن الجري، حريصًا كنت أو متراخيًا والنهار أيضًا لا يكف.
الأيام والليالي تنهب حياتك فاقتنص النافع منها ولا تظن أن إشراقة الصباح هي لك ما لم يكن قلبك مضيئًا بالله، ولا تظن أن في المساء نياحًا لك ونفسك مظلمة بالخطايا.
"... تقو وليتشدد قلبك وانتظر الرب "(مز26).
إلى الآن كنت تَعِد نفسك بالتوبة وتول سأتوب غدًا فمن الآن عدالخطية أن تأتيك غدًا وقل لها انطلقي اليوم، ادفع الخطية من يوم إلى يوم كما دفعتالتوبة واطردالخطية بالعلل كما طردتالتوبة بالأعذار إلى اليوم، وكما كنت تؤخر عمل الصلاح كذلك أفعل بالخطبة حتى تجد الغلبة...
كما سخرت بالحق اسخر الآن بالباطل، عِدْ الخطية أنك تفعل ما لا تفعله وادفعها عنك، تشبث بالصلاح وخلِّص نفسك، احيا لله كما حييت للعالم، تمسك بالدعة كما تمسكت بالغنَى، اطلب الفقر كما طلبت القنية، درب عقلك في طاعة الله كما استعملته في طلب العالم.
الآن لم تكن لنفسك بل كنت عبدًا للعالم، فمن الآن كن لنفسك واعمل لها - ماذا انتفع والداك بأموالهم ألم تأخذها منهم وصنعت بها هواك؟ فكذلك تؤخذ منك أيضًا، لكن صيرها لك كنزًا، اعطها للمساكين، لو أن سارقًا نهبك لصحت وولولت وها هي حياتك تسرق منك ولا تتحرك.
لا تحسب لك حياة إلا الزمان الذي أطعت فيه الله، الوقت الذي كنت فيه تعمل الخطايا في الدنيا كنت ميتًا. كف عن الشر كما كنت تكف عن الخير.
"فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة فيصادفكم ذلك اليوم بغتة... إسهروا إذا وتضرعوا في كل حين" (لو 21: 24-26).
من الآن لا تسوف التوبة لكن أسرع وأهرع إلى الله، العالم زهو فلا يطغيك... هو حلم فلا يسبيك... هو ظل لا تنظر إليه... هو قصة مرضوضة فلا تتعب يدك...، هو بحر عظيم فلا تغرقك أمواجه... إنه سيجوز كما هو مكتوب، غناه يبطل، حسنه يتغير، ونسيج سلطانه يبلَى، شرفه يسقط، خيراته تتبدل، سروره لا يبقى، شهواته تبطل، وهو وما فيه يزول...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
تعال من الآن نصنع برًا وتوبة، متى يكون ذلك؟ هلا نظل كل أيام حياتنا نطلب التوبة...؟ الآن باق لك حياة قليلة أجدر لا تضيعها كما ضيعت ما قبلها.
فلنسأل الله ربنا وإلهنا ومتولي خلاص نفوسنا أن يجعلنا أهلًا للرحمة... له المجد من الآن وإلى الأبد أمينة.
_____
(2) من مخطوطة دير السريان رقم 318 سير قديسين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/tears-of-repentance/your-life.html
تقصير الرابط:
tak.la/dyr9dpv