كانت منذ صغر سنها تثابر على الصوم والصلاة ومطالعة الكتب الإلهية، وبعد انتقال والدتها إلى الرب في المظال الأبدية عني والدها بتثقيفها بالعلوم والآداب والحكمة حتى صارت كاملة في كل شيء، فلما بلغت سن الزواج دعاها والدها، فلما حضرت بين يديه قال لها:
يا ابنتي تعلمين شدة محبتي لك ولوالدتك القديسة وقد رأيت جمالها وكمالها، وكيف شربت مرارة الموت وغصته وهي نزيلة القبور. نعم، لقد تغير حسنها وجمالها وخرجت من هذه الدنيا كرها، والآن يا ابنتي المباركة مارينا الحسنة. لقد بلغت من العلوم والحكمة والأدب شأنا طيبًا ونلت منها ما تصبو نفسك إليه.
والآن قد بلغت سن الزواج وسيؤول هذا المال والأملاك والخدم والماشية إليك. لقد خطر ببالي أن أقسم هذا المال والأملاك والخدم والماشية ثلاثة أقسام. قسمان لك ولوالدتك وأنا قسم أفرقه على المساكين، وإني مودعك ومالك وخدمك عند أحد أقاربنا. أو تتزوجين بإنسان مبارك يخاف الله وترزقين منه أولادًا مباركين. فإني زهدت في هذا العالم الزائل وجميع قناياه ولذاته ونعمته التي ليس لها دوام. وسأتوجه إلى أحد الأديرة لكي ألبس الإسكيم الملائكي `cxhma وأبكى على خطاياي الكثيرة لعلي أقدر أن أخلص نفسي الشقية وأنجو من سائر الأفكار الرديئة.
فلما سمعت ابنته الطاهرة العذراء القديسة ذلك، بكت بُكاءً شديدًا ثم ألقت نفسها بين يدي أبيها قائلة له: يا أبي قد خطر هذا الفكر بقلبك أن تخلص نفسك من هذا العالم الزائل وتتركني وحيدة، فكيف تأخذ نعمة السماء وتجعلني أجابه أهوال هذا العالم؟ بل كيف تطلب الخلاص لنفسك وتتركني في ضيقة صعبة مرة؟ ألم تسمع يا أبي ما قاله الكتاب المقدس أن الراعي الصالح يبذل نفسه عن خرافه...
ليس حسنًا أن تخلص نفسك وتعدها للحياة الأبدية وتورثني الشقاء والعذاب الدهري، أنت الذي قلت لي كيف شربت والدتي مرارة الموت وغصته وتغير جسدها وجمالها الفائق... أما رأيت كيف غير الموت حسنها وما آلت إليه... كيف مضت أيامها صراعا ودب فيها النتن، وكيف الذين يتمنون القربى إليها يلوذون بالهرب منها. ولو أتيح لها أن تقيم عندنا يومًا واحدًا بعد مفارقة نفسها من جسدها لما قدرنا أن نلازمها ساعة واحدة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى... لا أقدر أن أصف لك كيف رحلت من عندنا بغير رضاها. أتريد يا أبي أن أنطلق مثلها وأخرج بغير اختياري؟ ماذا ربحت والدتي من هذه الدنيا حتى أرغب فيها بعدها؟ ما ربحت غير المرض وتعب هذه الدنيا الفانية العابسة. يا أبتاه مالي حاجة فيها.
فلما سمع والدها هذا الكلام بقى حائرًا منزعج القلب ولحقه من العجب ما لم يره طول أيام حياته. ثم قال: ما هذا أيتها الابنة القديسة الطاهرة؟ أنا رجل وأمضي إلى دير الرجال الرهبان. وأنت لا يمكنك أن تدخلي موضع الرجال الذي أدخله، فأسألك أن تطيعي أمري وتأخذي ثلثي هذا المال وكامل الخدم والأملاك وأنا الثلث أتصدق به على المحتاجين، فقالت له القديسة، بلى تصدق بكامل المال عني وعنك وعن والدتي وأما أنا فسأحلق شعر رأسي وأتزين بزى الرجال وأكون لكم تلميذة وأخدمك حتى تتنيح، فلم يقبل منها والدها هذا فبكت بين يديه بدموع غزيرة واستعطفته ألا يهلك نفسها في براثن هذا العالم الزائل وقالت له إن أنت تركتني وتخليت عني فكل ما يحل بي من الخطايا فهو في عنقك.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/st-marine/speech.html
تقصير الرابط:
tak.la/9s7a2sp