للكنيسة المقدسة قوانينها التي تحكم أبناءها على مختلف درجاتهم، من علمانيين ومن أصحاب الرتب الكنسية. وهي تنظم علاقاتهم بها من جهة الحقوق والواجبات تمشيًا مع روح الحب الخالص، والرغبة في خلاص كل نفس من جانب الكنيسة تجاه أبنائها.
والكنيسة منذ الأجيال الأولى لم تفتها كبيرة أو صغيرة في كافة المجالات، إلا قننت وشرعت لها هداية للسالكين في برية هذا العالم.
ويسوس الكنيسة خدام العهد الجديد، وجعل كل شيء فيها مدبرًا بترتيب ونظام، وقد أُمِرنا أن نتجنب كل أخ يسلك بلا ترتيب –وللكنيسة سياستها وهي سياسة روحية تسير في رفق ووداعة، وهي مؤتمنة على خلاص النفوس في يوم الرب، ومن ثم فإنها تُوصى وتُعلم وتُنذر برفق وحب لأنه لا يمكن للإنسان أن يقبل التعاليم بالإكراه والجبر.
وأن السيد المسيح ذاته لما شرع في تأسيس كنيسة على الأرض وضع لها نظامًا بمقتضاه تُدار شؤونها ويَكُفل نموها ويحفظ كيانها إلى مُنتهى الدهر، فأعطى أن يكون البعض رسلًا والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح أي الكنيسة (أف 4: 11، 12).
وينبغي على جميع أعضاء الكنيسة عمومًا أن يشتركوا كلٍ على قدر استطاعته في بنيانها ونموها، وليكون إشتراك الجميع في هذا البنيان صالحًا. في كل زمان ومكان لا بُد لها من نظام داخلي ليكون كل عضو على بيَنة من حدود وظيفته وليكون لكل شخص رتبته –وقد انتخب ربنا يسوع المسيح الرسل الأطهار وأقامهم على الكنيسة ورسموا بوضع الأيدي خدامًا كل حسب ما أوتي من موهبة. ووضع الرسل والآباء الأطهار القوانين الكفيلة بحفظ كيان الكنيسة وإرتباط أعضائها إرتباطًا وثيقًا بها كالإرتباط القائم بين الأعضاء الكثيرة في الجسد الواحد.
وليس أحد ينكر القوانين والنظم والتقاليد التي رسمها الآباء الأولون الأطهار إلا كل منكر للأرثوذكسية خارج عليها.
قال الرسل في مقدمة الدسقولية:
"نحن الإثنا عشر رسولًا قررنا هذه التعاليم (الدسقولية) الجامعة، هذه التي حددناها لكل طغمات الكنيسة، وسمينا فيها الرتب كاستحقاقها لأنه كمثل السمائيين هكذا أيضًا الكنيسة، وقد عَلَمَنا كل واحد أن يثبت فيما قسم له الرب بشكر، الأسقف كراع، والقسوس كمعلمين والشمامسة كخدام، والأبودياكونيون كأعوان، والأغنسطوسيون قراء، والأبصلمودسيون مرتلين بالفهم، والأقلونيون قومة(1)، وبقية الشعب مستمعين كلام الإنجيل بأدب ووقار عاملين بالكلمة بحرص...".
وقالت القوانين (المجمع الصفوي) في (الباب التاسع ص 76، 77):-
"ليقف كل واحد في الطقس الذي دفع له ولا تغتصبوا لكم وحدكم رتبًا لم تُدفع لكم ولأجل هذا تسخطون الله مثل بني قورح وعوزيا الملك فإنهم اغتصبوا الكهنوت بغير أمر الله فأولئك أحرقوا بالنار، والملك تقشرت جبهته برصًا... والذين يغيرون الرتب لا يقاوموننا نحن بل هم مقاومون لأسقف كل البرية إبن الله عظيم الكهنة".
وورد في الديسقولية في (الباب الحادى والعشرين 144):-
"ولا نأمر أيضًا أن يقسم القسوس شماسًا ولا أبودياقن ولا أغنسطس ولا إبسلتيس ولا قيم بل الأسقف وحده".
كما ورد في المجموع الصفوي الباب الثامن:-
"الأغنسطس لا يجعل عليه يد ولا توضع يد على إيبودياكن والمرتلون أيضًا يبارك عليهم الأسقف...".
وفي المجموع الصفوي أيضًا في البابين السابع الثامن بيان رتب الشماس، والأبودياكن، الابصلتيس والقيم والشمامسة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وعليه فإن رتبة الشماسية تتضمن الشماس الكامل (ذياكون) ورئيس الشمامسة (الأرشيدياكون) وتتبعها خمس رتب أخرى ليست من درجات الكهنوت ولا تتم بوضع اليد وهي:
(1) القيم (الذي يتولى عمل القربان).
(2) الابصلتيس (المرتل).
(3) الأناغنوستيس (القارئ).
(4) الايبودياكون (نائب الشماس).
(5) الشماسة المرأة (تي ذياكون) –وهي في درجة ايبوذياكون.
وبذلك يكون عدد رتب الشمامسة سبع رتب، وفي هذا الكتاب ما تضمنه الكتاب المقدس وتعاليم الرسل والقوانين الكنسية وكتاب الرسامات بشأن هذه الرتب وبالأخص رتبة الشماس الكامل (الذياكون) التي لم يكن يتقلدها في القديم إلا أصحاب السيرة الطاهرة المشهود لهم بالقداسة والطاعة والاتضاع والمحبة فضلًا عن وفرة العلم والتعمق في المعرفة، وهؤلاء كانوا يختبرون أولًا ثم يتشمسوا إن كانوا بلا لوم.
وإنك ترى أن القديس أرسانيوس المتوحد لم ينل سوى رتبة الشماسية فقط، هذا القديس الذي كان من أعظم فلاسفة روما، رسم أغنسطسًا وأخذ يدرس الكتب المقدسة وَتَعَمَّق فيها وبعد فترة من الزمن سيم شماسًا.
والقديس أنبا افرآم السرياني الذي كان يُلَقَّب بنبي السريان وبقيثار الروح القدس صاحب المؤلفات اللاهوتية الضخمة والناسك والمتوحد ومدير كلية اللاهوت ورئيس أديرة الرها لم يكن إلا شماسًا وقد رسمه القديس باسيليوس الكبير في سنة 371م، وغيرهما كثيرون.
ولما كانت هذه الرتبة لا تُعْطَى إلا للقديس الكامل فلذلك أطلق عليه اسم "الشماس الكامل" (بي ذياكون انتليوس) بالقبطية. ووردت هذه العبارة في كتاب مصباح الظلمة لإيضاح الخدمة لإبن كبر، المحفوظ بالمتحف القبطي، وهي نفس الصفة التي يُنْعَت بها حبيب المسيح أنبا بيشوي فيوصف بالرجل الكامل (بي رومي انتليوس) –وذلك أن الأصل في رسامة الشماس أن يكون كاملًا وبلا لوم كالأسقف وبعد أختبار دقيق توضع عليه اليد فيعرف الشعب مقدار شرف هذه الرتبة وكرامتها، وما كانت الكنيسة قديمًا لتسمح -حسب مقتضى القوانين الكنسية وتعاليم الرسل- لكائن من كان بدخول الهيكل المقدس إلا للشماس الكامل والقس والأسقف- أي أصحاب الرتب الكهنوتية- ومن عداهم لا يجسر على دخول الهيكل. وفقط سَمَح الآباء للملوك المسيحيين بدخول الهيكل فيذكر (المجموع الصفوي في الباب الثاني عشر:)-
"أما الملوك فليقفوا داخل المذبح مع الرؤساء والمدبرين".
وكان الآباء البطاركة يقربون إليهم الشمامسة الممتازين ويكرمونهم ويسندون إليهم أعمالًا كبيرة.
إن وظيفة الشماس –ليست كما يتوهم البعض خطأ- أنها تنحصر في إتقان الألحان الكنسية والقبطية والإكتفاء بالخدمة في الهيكل أو خارجه لكنها جليلة القدر متشعبة النواحى جمة المسؤولية، فهي تتضمن الخدمة في القداس والوعظ والتعليم في الكنيسة وخارجها، افتقاد اليتامى والأرامل ومد يد المعونة لكل محتاج على قدر الطاقة، وزيارة المرضى وخدمتهم وممارسة كل أفعال البر والرحمة، فضلًا عن أنه يجب أن يكون مملوءًا من كل معرفة وعلم، ممتازًا في الطهارة.
لذلك قالت الدسقولية (تعاليم الرسل) في القوانين أنه يكون "بلا عيب مثل الأسقف". وإننا نذكر على سبيل المثال القديس العظيم أنبا ابرآم أسقف الفيوم (تنيح في 10/ 6/ 1914) كيف تفانى في أعمال الرحمة وخدمة المرضى والفقراء وكيف كان يشترك معهم في الغذاء الواحد. وكيف كان يصنع الرحمة مع جميع الناس بلا حدود، والقديس أنبا صرابامون أسقف المنوفية الشهير بأبى طرحة (تنيح حوالى سنة 1854م) كيف كان يحمل كل ما تحتاج إليه العائلات الفقيرة في الخفاء –وهو شيخ قد طعن في السن وتقدمت به الأيام.
وإذا كان أمر الأساقفة الكبار كذلك فكم يكون واجبًا على الشماس أن يكون ممتلئًا غيرة ومحبة ورحمة بالمحتاجين فضلًا عن المعرفة والعلم وطهارة السيرة وقداسة الحياة.
إذن ليست المسألة مسألة خدمة في الكنيسة وتظاهر بالمعرفة تكتفي بملابس الخدمة البيضاء وترديد الألحان والتسابيح وتَرَفُع على من هم دوننا في المعرفة، وتركنا كل ما هو مهم وكل ما يؤول إلى خلاص نفوسنا ونسينا أنه في اليوم الأخير يوم الدينونة الرهيب يقول السيد الرب لمختاريه تعالوا إليَّ يا جميع مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني... ولم يقل لهم غير ذلك وكفى. وهذا ما يتفق تمامًا مع ما قاله القديس يعقوب في رسالته في عبارات لا لبس فيها ولا غموض "الديانة الطاهرة النقية المقبولة عند الله الآب هي افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس في العالم" (يع 1: 27).
وإذا كان هذا الأمر محتمًا على سائر أفراد الشعب فكم يكون بالنسبة للشماس خادم هيكل الله. وعلى قدر أفعال الرحمة التي نفعلها في الخفاء على قدر ما يجازينا عنها الرب علانيةً، ولهذا نجد الشماس ينذر الشعب في نهاية القداس بعدم إقتراب أحد من التناول إذا كان غير طاهر أو بلا رحمة...
ستقرأ القليل في هذا الكتاب عن رتبة الشماس الكامل والرتب المتفرعة منها. ونرجو من الرب يسوع أن يعطينا العقل والفهم واليقظة لنسلك باستقامة أمام عينيه حتى تكون خدمتنا مرضية أمامه.
يوسف حبيب
_____
(1) جمع قيَم وهو القرابني.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/seven-deacon-ranks/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/29n6d3k