نقلت هذه السيرة عن القبطية لأحد الأعلام القدماء، وقام العالم الأثرى E. Amèlineau بنقل هذه السيرة من اللغة القبطية، ووجدت ناقصة من أولها وبعد البحث فيما ألفه العلماء الأجانب في هذا الشأن عن هذه السيرة وجدنا للعلامة Cheneau في كتابه Les Saints d'Egypte وفي دائرة المعارف الفرنسية الكبيرة ما يكمل ما نقص وينظم ما تفرق من أجزائها فنقلناه عن الفرنسية فجاءت السيرة وافية شاملة - وفي هذه السيرة الكثير من أقوال القديس وصفاته وشخصيته وتعاليمه مما يظهر بجلاء زعامته القوية في تلك العصور الحالية.
نشأ في الإسكندرية من أبوين فقيرين، ولما شب اشتعل خبازًا يصنع الفطائر، ولما اعتمد رغب عن عيشة العالم ومال إلى النسك والعبادة وَتَرَهَّب بوادي النطرون -وكان عمره حوالي الأربعين عامًا- وترى في السيرة كيف كان يقمع جسده للسير بالنفس إلى مدراج الكمال، وتقشفه في المأكل والملبس والنوم وكانت الغيرة تأكل قلبه فما كان يسمع أن أحدًا من تلاميذه تمم فضيلة ما إلا أكملها حتى أتقن الفضائل جميعها، فكان خير قدوة ومثال في جذب تلاميذه إلى الجهاد والسهر والتعب والعمل حتى صار منارًا للدين المسيحي في القرن الرابع. وفي السيرة تفصيل خبر قدومه إلى مجمع القديس باخوميوس كأحد العامة يرغب في الرهبنة - وكيف عرفه القديس بإرشاد بصيرته بعد أن طلب من الله أن يكشف له عن القديس مكاريوس. وإذ شاهد بعيني قلبه منزلته في القداسة استقبله بالحفاوة والتكريم.
انطلق القديس إلى جبال نتريا وهناك ذاع صيته ولمع نجمه ووصل خبره إلى البطريرك الإسكندري فرسمه كاهنًا وأشرقت أنوار فضائله.
كان ممتازًا في طهارته فقد ذكر عنه أنه ما كان يدخل الهيكل المقدس لتقديس الأسرار المقدسة حتى كان يعاين الهيكل مملوءًا بالملائكة القديسين فينتابه خوف ورهبة شديدة.
وذكر تلميذه ما نصه: "قال لي أبي (القديس مكاريوس)، لا يمر سبت أو أحد دون أن أري ملاك المذبح بالقرب من المكان الذي يكون أمامي حيثما أقدم الذبيحة". ثم أنه انفرد في أخوف براري ليبيا التي أطلق عليها فيما بعد اسم برية القلالي نظرًا لكثرة القلالي حيث تكاثر تلاميذه وبني كل منهم لنفسه قلايته وانطلق في آفاق النعمة وأشرقت شمس مواهبه في البرية على أتباعه من المتوحدين حتى بلغوا خمسة آلاف متوحد ينهلون من فضيلته وقداسته وحكمته.
وقد وردت في السيرة بعض العجائب ذكرناها كما جاءت في الأصل وراعينا في الترجمة المحافظة على أصل النص ولم نتمسك بحرفية العبارات في أجزاء قليلة لنوفر السلاسة والسهولة بالعربية.
وجاء في دائرة المعارف الفرنسية الكبيرة ص855 عنه:
"أنه ولد بالإسكندرية حوالي عام 306م ومات في عام 394م أو 405م (1). وعيده في 2 يناير في الكنيسة اللاتينية ويوم 19 في الكنيسة اليونانية.. ومثل القديس مكاريوس المصري رسم أيضًا قسيسًا للمتوحدين وكان أبو الرهبنة في نتريا وكان تلاميذه يعيشون في أكواخ ويجتمعون في كنيسة الدير يومي السبت والأحد، وكان في الأبنية أو في هذه المستعمرة ثمانية قسوس للخدمة وللقيام بالوظائف الطقسية للمجموعة".
ويقول المؤرخون أنه كان في صحراء نتريا مئات من المتوحدين وكان كل راهب ملزمًا بسد حاجاته بعمله الخاص، وفي المساء كانوا يرتلون الألحان والمزامير وكانت قوانين الحياة صارمة جدًا، وكان يقوم بتدريس الأعمال اللاهوتية فطاحل علماء اللاهوت وأعلام الرهبنة وحق في ذلك ما ذكره مؤلفا كتاب صحراء العرب والأديرة الشرقية ص29 عما ورد في دائرة المعارف للدين والأخلاق من أن العالم كله يدين لمصر بالرهبنة التي تخرج فيها الأدباء والمبشرون والعلماء الذين أدوا للإنسانية خدمات لم تقم بها هيئة أخرى حتى وقتنا الحاضر.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ويذكر العالم المؤرخ عزيز سوريال عطية صفحتي 157، 158 من كتاب الرهبنة القبطية ما يأتي:
"منطقة جبل نتريا أو وادي النطرون كانت تعرف أيضًا باسم برية شيهيت التي هب إليها المتوحدون منذ أقدم العصور المسيحية في القرنين الثاني والثالث، وتقع الآن إلى الغرب من منتصف الطريق الصحراوي الحديث بين مصر والإسكندرية تقريبًا حيث يوجد على مقربة منها إلى اليوم دير البرموس الشهير من مؤسسات القرنين الرابع والخامس - ويروي الكاتب بلاديوس الذي زار هذه المنطقة سنة 391م أنه وجد هناك خمسة آلاف راهب يعيشون مع بعضهم في جماعات صغيرة غير ستمائة ناسك يعيشون فرادى داخل الصحراء.
وكانت هذه المنطقة تنقسم إلى ثلاثة مراكز رهبانية، أولها جبل نتريا وثانيها مستعمرة القلالي وثالثها الإسقيط على التوالي من الشمال إلى الجنوب منحرفة صوب الشرق قليلًا. ويعزي الفضل في تأسيس الأولى إلى أمون الذي نزح إلى تلك المنطقة حوالي سنة 325م بعد أن عاش 18 سنة في منزل الزوجية بالإسكندرية.
وقصة زواجه قسرًا وإقناعه زوجته أن تحيا معه حياة التبتل والعبادة سرًا طوال هذه الفترة مشهورة، أما المركز الثاني فقد نشأ حول القديس أنبا مقار الذي ولد بالإسكندرية في القرن الرابع، ثم مال إلى النسك فأخذ يتوغل إلى أن استقر في جهة القلالي وعرفت بهذا الاسم لأن أتباعه تكاثروا حواليه وبني كل منهم لنفسه قلايته ليتتلمذوا على يديه وقد اشتهر أبو مقار بسبقه المضطرد لغيره من النساك في ضروب التقشف. ولما اكتظت القلالي بالرهبان حواليه، هجرها إلى المركز الثالث وهو الإسقيط وكان أشد وعورة من سابقيه وتبعه إلى هناك عدد محدود من تلاميذه المقربين له والمعجبين به (2)".
في هذه البراري المخيفة القاحلة كان يعيش مئات الرهبان في قلالي ضيقة متباعدة تباعدًا لا يسمح لهم بالتزاور ويتبعون نظامًا في المعيشة من أصعب النظم وأقساها كما كانوا يقومون بأنواع كثيرة من التقشفات الجسدية وكان رائدهم ومرشدهم الأب الأب مكاريوس الإسكندري الذي كان يذهل رهبانه بما كان يأتيه من أعمال تقوية.
وهكذا كانت الرهبنة تسير في القرون الأولى بإرشاد دقيق - حيث لا رهبنة نافعة بدون إرشاد معلم خبير.
وإن الكنيسة تكرم ذكرى القديس العظيم أبو مقار الإسكندري وتذكره في جميع القداسات وفي التسبحة إذ تذكر دومًا (الثلاثة مقارات) لما له من عظيم الأثر في الكنيسة - وفضلًا عن ذلك هناك قطع لتمجيده في عيد نياحته الذي يقع في 6 بشنس وورد ذكره في السنكسار وتتلي سيرته يوم عيده.
ورغم أهمية أعمال القديس النسكية والروحية وأثرها في الرياضيات الدينية، فإنه لم يظهر للآن كتاب شامل يترجم حياته فلذا آثرنا أن تخرج هذه الترجمة من المخطوطات القبطية التي طبعها العلامة E. Amèlineau وترجمها إلى الفرنسية ونكمل ما نقص منها عن الفرنسية للعلامة "شينو".
والقديس مكاريوس الإسكندري كما قلنا يذكر في القداسات باستمرار وفي التسابيح وهو احد الثلاثة مقارات القديسين. وقد يسمع الكثيرون اسمه ولكن لا يعرفون عنه شيئًا، ففي هذه الترجمة تجد الكشف عن شخصيته ومواهبه وعظيم قداسته، كما يتبين ذلك للمطلع تفصيلًا وبذلك يتصل المثقفون بأعلام تاريخنا ويعرفون قيمة تراثنا الروحي ويمجدون ذكرى هذا القديس الكريمة ونأمل ألا تغيب عنا ذكري هذا القديس وأن تحصل الإفادة من تعاليمه ورسالته وأثره الخالد ويضيء نوره قدام الخاص والعام.
هذا وقد قامت لجنة مراجعة الكتب الدينية بالمقر البطريركي بالقاهرة مشكورة بمراجعة هذا الكتاب وأعيد في 5/ 9/ 1961م بالموافقة عليه وأن ينال ما يستحقه من الذيوع تخليدًا لذكري صاحب الترجمة.
سبتمبر سنة 1961 م. يوسف حبيب
_____
(1) الأرجح أن تكون وفاته 404م أو 405م حيث يذكر لنا في هذه السيرة أن عمر القديس كان مائة سنة - أيضًا ذكر السنكسار أنه تنيح سنة 404م عن مئة سنة.
(2) ذكر كتاب الرهبنة القبطية ص55 أن منطقة القلالي تسمي أيضًا منطقة سيليا وأن نتريا فقدت أهميتها وحلت محلها سيليا التي تدين في شهرتها إلى مؤسسها أبا مقار الإسكندري، وأن الثلاثة مراكز الديرية الرئيسية هي نتريا - سيليا (تبعد بحوالي 19 كيلومترًا) الإسقيط.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/macarius-of-alexandria/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/y2wg7tq