ولم يكتف بهذا في عمق تعبه النفسي، قال للرب:
"وأنت يا رب فإلى متى؟ عد ونج نفسي، وأحيني من أجل رحمتك".
عبارة "أحيني" تعني أنه في نظر نفسه ميت... طبعًا يقصد بهذا الموت الأدبي والموت الروحي. كما قال الآب في عودة أبنه الضال " إبني هذا كان ميتًا فعاش" (لو1: 24)، وكما قال الرب لملاك كنيسة ساردس " إن لك اسما إنك حي، وأنت ميت" (رؤ3: 1).
إذن داود في وصف نفسه: ضعيف، ومريض، عظامه مضطربة منزعجة، وتعبان؟، ومتنهد، وباك وميت...
تركه الله حتى استوى، حتى امتلأ كأسه، وَذُلَّتْ نفسه.
انفتحت عيناه أخيرًا، وأنكشف عنه الغطاء، وشعر بحقيقة ذاته، فإذا هو لا شيء قدام نفسه... رأى نفسه ضعيفًا ومريضًا ومحتجًا إلى رحمة الله... لقد تغير حالة عن ذي قبل... رفع الغطاء عن الجبار، فإذا هو في الموازين إلى فوق (مز62: 9). أين جبار البأس؟! إن مجرد نظرة ألقاها علي جارته من فوق سطح بيته (2صم11: 2)، أنهار أمامها كل بنيانه. حقًا إن الإنسان لا شيء " إنما نفخة كل إنسان قد جعل... ". مز39: 5، 11).. مجرد منظر...
أين ذلك الجبار، رجل الحرب؟! أين رجل المزمار والقيثار؟! أين العود الذي كان يضرب عليه، فيهدأ شاول حينما يقتحمه الروح الرديء؟! أين رجل الصلوات الذي مازلنا نتعلم الصلوات من مزاميره؟! أين... أين..؟ لقد بقيت عظام مضطربة، ونفس منزعجة، وصوت يصرخ إلى الله ويقول:
وأنت يا رب إلى متى؟ عُدْ وَنَجِّ نفسي...
إلى متى أظل في هذا التعب الداخلي، وهذا الحزن الذي يحاصرني؟ إلى متى أظل في صغر النفس، والشعور بالخسة والعار؟! وذكريات الخطية تتعبني... إلى متي تتركني هكذا؟ عد ونج نفسي. امنحني بهجة خلاصك. انضج على بز وفاك فأطهر. إغسلنى فأبيض أكثر من الثلج".. أحيني من أجل رحمتك...
"نفسي قد انزعجت جدًا" أي أنه فقد سلامه الداخلي.
لأن الخطية لا يمكن أن يكون معها سلام... "لا سلام -قال الرب- للأشرار" (أش 48: 23). أين يا داود تسابيحك وأغانيك؟! أين قيثارتك الحلوة؟.. لقد علقت قيثارتي على أوراق الصفصاف. كيف أسبح تسبحة الرب في أرض غريبة؟! (مز137: 2، 4)... الخطية جعلتني في حالة غربة عن الله...
"نفسي قد انزعجت جدًا". حقًا إن آلام النفس أصعب من آلام الجسد.
لذلك يقول للرب: عد ونج نفسي. عد أنت إليّ، إن كنت لم أعد إليك... ونج نفسي، لأن نجاتها في يدك أنت وحدك... أنت الوحيد الذي تستطيع أن تعزيني. لأني أعرف جيدًا أني " إليك وحدك قد أخطأت، والشر قدامك صنعت. فأحيني من أجل رحمتك.
وصل داود إلى انسحاق النفس، فوصل بذلك إلى الله.
ووقف أمامه يتكلم معه بصراحة، ويشرح له حالة بعد الخطية ويطلب رحمته. ويقول له " وأنت يا رب إلى متى؟".
أنا يا رب قد سقطت. ولكن أنت؟ أين أنت منى؟
لماذا يعيرونني قائلين: أين هو إلهك؟! (مز42: 10).
أنا مهما بعدت عنك، أنت لا تبعد عني. ومهما كنت ضعيفًا، أنت الذي تسند ضعفى. وإن كنت ساقطًا، أنت الذي تقيمني من سقطتي. وإن كانت الخطية قد أهلكتنى، عد ونج نفسي، وأحيني من أجل رحمتك. كرحمتك يا رب وليس كخطاياي.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
نحن إنما ندخل إلى قلب داود ونتخيل مشاعره...
هو لم يقل هنا: إلى متى يا رب تنساني (مز13: 1) ولا إلى متى يا رب تقف بعيدًا، إلى متى تختفي في وقت الضيق (مز10: 1)... إنما في هذا المزمور قال إلى متي... وسكت!! غلبة التأثير فلم يكمل العبارة... أنت يا رب فاهم ما أقصد...
الذي أنتظره يا رب منك أن تتدخل. لا تتركني.
لا تتركني لعظامي لنفسي الضعيفة، ولا تتركني لأعدائي الأقوياء. ولا تتركني لعظامي المضطربة. ولا إلى نفسي المنزعجة.
يقول له: إلى متى؟ لأنه قد طال الزمان، وثقل الهم. وشعر داود بالاحتياج إلى الله.
إن الله في الحقيقة: أحيانًا يستجيب بسرعة، وأحيانًا يبطئ!
له حكمته في الاستجابة السريعة، وله حكمته في الإبطاء.
من جهة الاستجابة السريعة، يعطينا مثلًا عجيبًا في. أش 65: 24) إذ يقول الرب " ويكون إني قبلما يدعون، أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أني أنا أسمع"...
قبلما يطلبون الطلب، أنا أجيبهم إليه... حقًا هذا عجيب. ولكنه ليس عجيبًا على الله الذي كثيرًا ما كان يعطينا قبلما نطلب.
ويقول: "فيما هم يتكلمون بعد" أي قبل أن يكلموا كلامهم، إني أنا أسمع... لأني أسمع ما القلب، قبل أن يفوه به اللسان...
لعلك يا رب تستجيب هكذا بسرعة للأبرار الذين لم يخطئوا إليك، أو لمن يغضبوك بأفعالهم. أما أنا فلست من هؤلاء. أنا أستحي من أن أرفع وجهي إليك. لذلك عظامي قد اضطربت ونفسي قد انزعجت جدًا... لذلك قد صبرت على. فإلي متى يا رب؟
لعله توجد في عينيك يا داود بعض دموع مخزونة في عينيك، أريد أن أعصرها فتسقط. ربما توجد بعض تنهدات لم تتأوه بها بعد... ربما يوجد بعض انسحاق. أنت محتاج إليه لتكمل به توبتك. لذلك أنا صبرت عليك... صبرت حتى تقول " أُعَوِّمُ في كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي...
إلى متى يا رب؟ إلى متى أسلك كئيبًا من مضايقة عدوي (مز42: 9) من مضايقة أولئك الذين يحزنونني قائلين: ليس له خلاص بالله (مز3).. ربما يكون السبب منك أنت يا داود.
الله دائمًا يتدخل في الوقت المناسب. قد نظن نجن أنه أبطأ. ولا يكون الأمر هكذا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/do-not-rebuke-me-in-your-anger/how-long.html
تقصير الرابط:
tak.la/c42m7g7