الفصل السابع: القديس أنطونيوس، ومحبة الله:
لَمَّا مَلَكَت محبة الله على قلب القديس أنطونيوس، انْتُزِع الخوف تمامًا من قلبه... حتى من الله نفسه، ما عاد يخاف...
واستطاع أن يقول لتلاميذه، تلك العبارة المشهورة عنه:
[يا أولادي، أنا لا أخاف الله..].
فلما تعجبوا قائلين: [هذا الكلام صعب يا أبانا].. أجابهم: [ذلك لأنني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو 4: 18).
حقًا، إن الحياة الروحية يمكن أن تبدأ بمخافة الله، كما قال الكتاب: "بدء الحكمة مخافة الله" (أم9: 10). وبالمخافة ينفذ الإنسان الوصايا. ولكنه إذ يمارس الحياة الروحية، يجد فيها لذة ومتعة، فتزول المخافة ويبقى الحب. وكلما نما الإنسان في محبته لله ولوصاياه، حينئذ: "المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى الخارج".
والقديس الأنبا أنطونيوس، عاش في هذه المحبة: بدأ بها، فدفعته إلى الوحدة ثم نما فيها، حتى وصل إلى قممها...
لولا محبته لله، ما استطاع أن يحيا في الوحدة فمحبة الله إحدى الصفات الجوهرية التي ينبغي أن يتميز بها من يطلب الوحدة. وكما نقول في صلاة القسمة عن آبائنا السواح والمتوحدين: "وسكنوا في الجبال والبراري وشقوق الأرض، من أجل عظم محبتهم للملك المسيح". هذه المحبة هي التي دفعتهم إلى سكنى الجبال، لكي يتفرغوا لعشرة الرب الذي أحبوه...
من أجل هذه المحبة، ترك القديس كل شيء، لأن الله عنده هو أثمن وأغلى من كل شيء، ومن كل أحد. ولأن محبة الله تشجع القلب، فلا يحتاج إلى محبة أخرى تسنده أو تعزيه.
محبة الله هي الدافع إلى الوحدة، وهي الدافع إلى الصلاة:
أحب القديس الله. ومن محبته له أنفرد به، وأصبح لا يستطيع أن يفارقه، ولا يستطيع أن ينشغل عنه بشخص أخر. وكما قال الشيخ الروحاني في ذلك: [محبة الله غربتني عن البشر وعن البشريات]. ومن محبته له، وجد متعه روحية في مخاطبته والتحدث إليه، كما يقول داود النبي: "محبوب هو أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي"، وكما نقول في التسبحة: "أسمك حلو ومبارك، في أفواه قديسيك".
أن عمق الرهبنة هو في معناها الإيجابي: الالتصاق بالله. أما معناها السلبي: البعد عن العالم، فهو مجرد وسيلة...
ما أحلى قول داود النبي: "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب" (مز73). وكيف يلتصق الإنسان بالرب، أن كان بكل مشاعره وفكره منشغلا بالعالم وما فيه..؟!
ومحبة الله، كما قادت للوحدة والصلاة، قادت إلى الزهد:
لأن الشخص الذي يذوق الله وحلاوة محبته، يبدو كل شيء آخر تافها أمامه. وأمام حلاوة الله، يفقد كل شيء آخر قيمته، ويصبح باطلا وقبض الريح. وكما قال بولس الرسول: "خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية... لأربح المسيح" (في 3)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهنا نجد الزهد ليس مجرد عمل تغصب، يغصب فيه الإنسان نفسه على ترك مقتنيات العالم وملاذه من أجل الله، إنما هو اقتناع عميق بتفاهة كل شيء. وهذا الاقتناع نتيجة لمحبة القلب لله...
وهكذا يرى الإنسان أن كل متع العالم لا تشبعه، فيزهدها، لأن قلبه قد أنفتح على محبة أكبر، وأعمق، وأسْمَى، هي محبة الله، التي تضاءل أمامها كل شيء آخر. ومن الناحية المضادة، إن ملكت محبة العالم على قلب إنسان، نزعت منه محبة الله، ولذلك يقول الرسول أن: "محبة العالم عداوة الله"..
ونحن نسأل أنفسنا: كيف استطاع القديس أنطونيوس، أن يسكن وحده في تلك المغارة البعيدة؟ وكيف أحتمل البعد عن كل عزاء بشري؟ وكيف وجد شعبة في الوحدة؟
الجواب هو أنه كان شبعانًا بمحبة الله، فلم يعوزه شيء.
الوحدة بالنسبة إليه، لم تكن وحدة مطلقًا، وإنما كانت في حقيقتها عشرة مع الله، ومع ملائكته...
عِشرة ألذ من عشرة البشر، ومن المجتمعات البشرية.
وعشرته مع الله جعلت المحبة تنمو في قلبه، فحينما كان يلتقي بالناس، كان يلتقي بهم في حب. وكانت معاملاته لتلاميذه مشبعة بروح الاتضاع والود، من ثمار الحب الذي فيه.
وهكذا لم تكن وحدته انطواء، وإنما حبًا...
ومع محبته للقديس بولس البسيط، طلب إليه أن يسكن وحده، لفائدته الروحية. لأنه كان يحبه حبًا روحيًا، يدفعه إلى أن ينمي محبة التلميذ لله، ولو فارقه... إنها محبة لا تلصقه به شخصيًا، وإنما تلصقه بالله، الذي يحب المعلم والتلميذ كليهما معا، أنطونيوس العظيم وبولس البسيط(1)..
_____
(1) ملحوظة من الموقع: في نهاية الكتاب يوجد "مديحة للأنبا أنطونيوس" للبابا شنوده الثالث (يناير 1962) - حينما كان اسمه الراهب أنطونيوس السرياني. وقد وضعناها في الرابط السابق بقسم المدائح لعدم التكرار.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/anthony/god.html
تقصير الرابط:
tak.la/r27smsa