والحقيقة أننا كُلما تعلمنا الاتضاع مِن الرب كُلما نُلناه. فهو وهو رضيع لم يكن له مكان يوضع فيه، أو فراش، بل وُلد في مزود، مِن أم فقيرة، وعاش في بيت نجار، وكان خاضعًا لأمه وودودًا لها، وكان يستمع لتعليمها ويستفسر منها، مع أنها كانت تندهش للحكمة التي كان يسأل بها.
واستسلم أيضًا ليوحنا المعمدان، السيد وافق على أن يتعمد مِن العبد. ولم يُقاوم الذين ثاروا عليه، ولم يتمسك بالهجوم على أصحاب السُلطة بالكلام، بل وهو الأكثر قوة وقدرة تنازل عنْ سُلطانه إلى حين، لكي يُعلمهم بنفسه درسًا جيدًا فعالًا. وقاوم سلوك رؤساء الكهنة وأدانهم، وقُدٍم للمحاكمة مِن السلطات وصبر عليهم وأحتملهم بهدوء، وفي الوقت الحاضر كُشفت افتراءاتهم. وبُصق عليه مِن العبيد، وبتدبير عظيم أُسلم للموت، وبالموت حمل عار البشرية، وهكذا بتواضعه الكثير خلًص الإنسان وكُل نسله إلى التمام، وأخيرًا أُظهر مجده لغير المعروفين الذين يُمجدونه، الذين هم التلاميذ الأوائل المباركين، الفقراء والذين سعوا وراءه بلا مأوى، وبلا حكمة الكلام، وغير تابعين للجموع، مُنفردين وخاليين مِن ظُلم الأرض وتقلُبات البحر، مضروبين بالسياط، رُجموا بالحجارة واضطهدوا، وفي النهاية صاروا مُختارين. هؤلاء هم آباؤنا ومُعلموننا الإلهيات. ونحن نحيا مُتمثلين بهم في الاتضاع لكي يُشرق علينا المجد الأبدي ونعمة المسيح الحقيقية الكاملة.
وبناءً عليه كيف نثبت في اتضاع المُخلٍص ونبتعد عنْ الكبرياء والتباهي المُميت؟ حينما نتزين مثل هؤلاء الآباء الأوائل، ولا نتغاضى عنْ أي شيء يشدنا إلى أضرار الكبرياء. لأن النفس التي تتمثل بهؤلاء الآباء الأوائل، وتسلك بنفس أعمالهم، تأخذ نفس سماتهم. فليكنْ سلوكك ومظهرك وثيابك وطعامك وأساسك ثابتًا على أساس راسخ، ولتبذل جهدك ليكون أثاث بيتك بسيطًا، وبالأولى لتكن ترنيمتك هادئة وكلامك في الصلاة مُتزنًا وباهتمام واضح. ولا تُعلٍمنى بتعالي وافتخار في الكلام، ولا تتباهى علىً بصوتك اللطيف في الترانيم، ولا تتكبًر علىً علىً في الكلام وتُرهقنى، بل في كُل شيء ابتعد عنْ العظمة. فالسيد المسيح مِن أجل المحبة كان مُترفقًا بأهل بيته وبعبيده بنى البشر، وكان مُحتمٍلًا وصبورًا على كبرياؤك وعجرفتك. فمُحب البشر جاء مِن أجل المُتضعين، ومِن أجل مُساندة ومعونة الذين هم في ذُل الخطية، ولكي يفتقد المتألمين ويعتني بهم، ولم يزدرى بهم يومًا ما، وكان عذبًا في الكلام، وفي ردوده كان يُشعُ فرحًا، وبمهارة اقترب مِن الكُل. ولم يقتصر على أهل بلده في مُعاملاته، ولم يُهيئ نفسه في الكلام مع الغرباء، ولم يُجامل ويمدح بالكلام غير الأتقياء، وإلى أي مدى كانت قوته ومُميزاته في الخفاء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وكمْ كان يشهد بنفسه ضد الخطايا، ولم يتوقف عنْ كشف المُخالفين بعد أن يُعطيهم حق التكلُم أولًا حتى يكون مُنصفًا معهم.، كما قيل في الأمثال: "الأول في دعواه مُحق. فيأتي رفيقه ويفحصه" (أم18: 17)، مثلما حدث مع أيوب الذي لم يتغيًر عندما صارت عليه المدينة وأرادوا أن يصطادوا له الأخطاء، لذلك قال: "إذ رهبت جمهورًا غفيرًا وروعتنى إهانة العشائر فكففت ولم أخرج مِن الباب" (أى31: 34). ولكن السيد المسيح لم يكن مُرهقًا لأحد بتوبيخاته، ولم يدين أحد بسرعة على آلامه، ولم يحكم على الضعفاء إلا بعد أن يكون تأكد تمامًا مِن خطاياهم، ويأخذهم جانبًا ويُجددًهم بالروح القدس، كما قال الرسول: "أيها الإخوة إن إنسبق إنسان فأُخِذ في زلة ما فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظرًا إلى نفسك لئلا تُجرًب أنت أيضًا"(غل6: 1).
واجتهادك إلى أي درجة لكي لا تُمجًد عند الناس، والذي يسعى إليه الآخرون. وإذا كُنت تتذكر المسيح فإنك سوف تأخذ أجرتك تلقائيًا مِن الله عند مجيئه الثاني، كما قال المسيح: "متى صنعت صدقة فلا تُصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يُمجًدوا مِن الناس. الحق أقول لكم إنهم قد إستوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تٌعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يُجازيك علانية"(مت6: 2- 4). لذلك لا تخسر نفسك، ولا تطلُب مجد الناس. لأن الله العظيم يرى ويُلاحظ الذين يُحبون المجد مِن الله ويُشرق عليهم ويُجازيهم. ومع ذلك فإن كُنت مُهتمًا بأن يكون لك المركز الأول بين الناس، وأن تكون مُمجدًًا منهم، فلتكُن مُتساويًا مع الخاضعين لك، كما يقول بطرس الرسول: "لا كمنْ يسود على الأنصبة بل صائرين أمثلة للرعية"(1بط5: 4)، وكقول المسيح: "منْ أراد أن يصير فيكم أولًا يكون للجميع عبدًا"(مر10: 44). وهكذا يقول بالتمام، أسعى إلى الاتضاع ولا تُبعده عنك، وهكذا حينما ترتحل إلى المجد الحقيقي يُعترف بك أمام ملائكة الله، كما قال السيد المسيح: "كُلْ مَنْ إعترف بى قُدام الناس يعترف به ابن الإنسان قُدام ملائكة الله"(لو12: 8). ويعترف المسيح بك كتلميذ له أمام الملائكة ويُمجدك لأنك صرت مِن المتواضعين، مُتشبهًا بكلماته التي تقول: "إحملوا نيري عليكم وتعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم"(مت11: 29). الذي له المجد والسُلطان إلى أبد الآبدين آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pauline-todary/humility/jesus.html
تقصير الرابط:
tak.la/v9wvjsm