مع كل الانتقادات التي وجهت للفكر الكلاسيكي في التنظيم إلا أنه يمكن التغلب على معظمها ومن ثم تجنبها، وذلك من خلال العمل على تبسيط الهيكل الإداري وخلق حالة من المصالح المشتركة بين العاملين والمزيد من التنسيق بين التخصصات الإدارية والتنفيذية... إلخ.، ومن جهة أخرى فإن عناصر النظرية الكلاسيكية –مع كل التطورات التي طرأت على النظريات التنظيمية خلال مراحل تطورها المتنوعة– مازالت من أكثر العناصر التنظيمية المعروفة وشائعة الاستخدام في الحياة العملية. وهذا ما يدفعنا للتعرف على هذه العناصر التنظيمية بمزيد من الدراسة والتحليل على ضوء المفاهيم المسيحية، وذلك طبقا للموضوعات التالية:
من أهم المبادئ شائعة الاستخدام على مستوى نظريات التنظيم مبدأ "التخصص وتقسيم العمل"، والتخصص في العمل أمرًا منطقيًا سواء في الأعمال الروحية أو الدنيوية. لأن الكتاب المقدس يعلمنا أن هناك زارع وساقي وحاصد ودارس وكلها عناصر زراعية تتنوع فيما بينها ولكنها متكاملة، ولذلك فهى تعكس أهمية وظيفة التخصص في العمل الإداري. والعمل الكنسي نفسه طبقًا لتعاليم الكتاب المقدس -والتقليد الكنسي المتوارثة عبر الأجيال- نجد به الشمامسة والقسوس والأساقفة، وكل هذه تخصصات رعوية تتنوع لكنها تتكامل. وسنعود للتعمق في هذا الموضوع بعد قليل.
وحتى يكون هناك تخصص، فلابد أن يكون هناك تقسيما للعمل. ويتم تقسيم العمل بناءًا على تحديد متطلبات ومواصفات كل وظيفة أو ما يسمى (بتوصيف الوظائف)، ويستخدم التوصيف الوظيفي لكل وظيفة في تحديد مواصفات شاغليها من حيث: السن والجنس والمؤهل العلمي والخبرة والمواصفات الشخصية والجسمانية والعقلية والنفسية والاجتماعية... إلخ.. ويعلمنا السيد المسيح أهمية الاختيار، حيث قد قام السيد الرب بنفسه باختيار تلاميذه ورسله طبقًا لمواصفات وخصائص معينة لا يعلمها إلاّ رب المجد يسوع، مثل: المحبة والبساطة ونقاوة القلب وحب الخدمة.. وغيرها. وبالمثل كان يفعل هؤلاء التلاميذ والرسل في كل مكان بشروا فيه. ويجدر الإشارة إلى أن تقسيم العمل والتخصص يفيد في نواحي إنتاجية وتسويقية كثيرة من أهمها: زيادة الإنتاجية، وإرتفاع مستوى جودة السلعة أو الخدمة بسبب زيادة الخبرة العملية، مع انخفاض تكاليف التشغيل.
وقد يتساءل البعض ألا يستطيع كل شخص بالتعليم والتدريب المناسب أن يشغل أي وظيفة؟ بالطبع الإجابة بالنفي.
حقيقى إنه يوجد كثيرًا من الوظائف والأعمال النمطية التي يستطيع أن يؤديها الكثير من الأفراد بعد التعليم والتدريب المناسب. ولكن في المقابل هناك وظائف وتخصصات متميزة أو لنقل متفردة، تحتاج لمواصفات شخصية معينة وأحيانًا إلى قدرات أو مواهب خاصة لا تتوافر لكل الأفراد ولا يمكن اكتسابها بالتعليم والتدريب والأمثلة على ذلك كثيرة جدا. أضف على ما تقدم أن هناك فروقا شخصية بين الأفراد. وقد يعكس مثل الوزنات (وجود الفوارق بين الأفراد) من خلال النتائج التي حققها كل فرد من الأفراد الثلاثة بالمثل. كما أن (نجاح سيدنا يعقوب) في زيادة غنمه وثروته –عند الإنفصال عن خاله– تعكس ذلك (تك 30: 25 - 43).
ويعلمنا الكتاب المقدس أن الفوارق الشخصية بين الأفراد ليس دليلًا على تميز أحدهم عن الآخر من حيث التكوين أو الخلق. فالخالق أعطى لكل إنسان وزنات ومواهب (كل حسب طاقته) وحسب نوع الغرض أو المهمة التي أعُطيت من أجلها الوزنة أو الموهبة. وتتنوع الوزنات والمواهب فيما بين الأفراد ولكنها لا تتعارض بل تكمل بعضها البعض في نظام واحد مثل الأعضاء بجسم الإنسان، لأن كلها أعضاء في جسد واحد هو يسوع المسيح. "لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة، وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضا." (1 كو 12: 12).
وطالما نحن أعضاء في جسد واحد إذن: "لا تقدر العين أن تقول لليد: "لا حاجة لي إليك! أو الرأس أيضا للرجلين: لا حاجة لي إليكما! بل بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر أضعف هي ضرورية. وأعضاء الجسد التي نحسب أنها بلا كرامة نعطيها كرامة أفضل. والأعضاء القبيحة فينا لها جمال أفضل." (1 كو 12: 21 - 23). نفس الشيء بالنسبة للمواهب التي تُمنح للأفراد. "فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد." (1 كو 12: 4) ويؤكد الرسول بولس هذا المعنى بقوله "فمن هو بولس؟ ومن هو أبلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتهما، وكما أعطى الرب لكل واحد: أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي" (1 كو 3: 5، 6).
فالعبرة إذن ليس بنوع الوزنة أو الموهبة المعطاة للفرد، بل بكيفية الحفاظ عليها وصقلها وتنميتها من خلال الدراسة والتدريب المستمر لها، ثم بعد ذلك بكيفية توظيفها التوظيف الجيد الأمين، والعمل الجاد ضمن المنظومة الإدارية الأكبر في تناغم وانسجام، دون تضارب أو انقسام، لأن، "كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت." (مت 12: 25).
من جهة أخرى هناك مبدأ إداري معروف وشائع يستخدم لترجمة الفروق الشخصية بين الأفراد، وذلك عند التفكير في تسكين شخص ما في وظيفة معينة، هو: "الرجل المناسب في المكان المناسب" والمؤلف يفضل اضافة تعديل بسيط على هذا المبدأ ليكون: "الرجل المناسب للوظيفة أو الالتزام أو المهمة المطلوبة". فالمبدأ بصيغته الأولى كان أكثر شمولًا وعمومية، لأنه يتناول مدى ملاءمة العنصر البشرى للوظيفة بعمومها ككل. أما التعديل المقترح فأنه يجعل المبدأ أكثر تحديدًا وخصوصية، لأنه يتناول مدى ملاءمة العنصر البشرى لالتزام بعينه مطلوب تحقيقه، مما يعكس مدى ملاءمة العنصر البشرى لتحمل مسئولية بعينها، أو مدى رغبته وقدرته على إنجاز الالتزام بالصورة المطلوبة.
والرب يسوع في أكثر من موقف يؤكد على أهمية مبدأ "الرجل المناسب والإلتزام المناسب"، وذلك من خلال تكليف التلاميذ الأثنى عشر أو بعضًا منهم أو تلميذ بعينه بتكليفات أو مهام معينة. فحين رأى الرب يسوع التلميذان سمعان واندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر قال لهم: "هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس. فللوقت تركا شباكهما وتبعاه" (مر 1: 17، 18).
نفس الإهتمام بمبدأ الرجل المناسب والإلتزام المناسب نجده أيضا في تكليف السيد الرب لبطرس عندما قال له: "وأنا أقول لك أيضا: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماوات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماوات" (مت 16: 18، 19) ونفس التكليف أعطاه السيد المسيح لكل تلاميذه عندما قال لهم "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 82: 61 - 02). حتى في وقت الصلب والرب تحت الآلام فإن يسوع لم ينس أمه، الأمر الذي جعله يخاطب أمه ومُكلفًا يوحنا الحبيب بمهمة رعايتها قائلا: "يا امرأة، هوذا أبنك". ثم قال للتلميذ "هوذا أمك" ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته (يو 91: 62، 72).
لا يستطيع أحد بمفرده أن يتحمل مسؤولية إدارة أي عمل كبير، لذا يتطلب الأمر توزيع الأعمال والأدوار على أكثر من فرد لديهم من القدرة والتخصص ما يؤهلهم للمشاركة في تحمل المسؤولية. كما يتطلب الأمر أيضا تفويض بعض السلطات والصلاحيات لمن يقع عليهم الاختيار.
والسؤال الآن: ما هي المسئولية؟ وما هي السلطة؟ وما هي العلاقة بينهما؟
المسئولية هي: "القدرة على الالتزام بأداء أي عمل إداري إنتاجي أو تسويقي أو مالي... إلخ.، يُكلف به الشخص لتحقيق أهداف أو نتائج معينة".
والسلطة هي: "الصلاحيات التي يتمتع بها المسؤول ليتخذ ما يراه من قرارات مناسبة." وذلك بغرض تحمل ما يقع عليه من عبء أو إنجاز ما يوكل له من التزامات بالكفاءة المطلوبة.
والعلاقة بين السلطة والمسئولية تظهر من أهمية تساوى المسؤوليات مع القدر المسموح به من سلطات وصلاحيات. ولذلك فإنه يمكن القول مجازا أن السلطة والمسؤولية هما وجهان (لعملة تنظيمية واحدة)، بمعنى أن تفويض السلطة لا بُد أن يكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتق المطلوب تفويض السلطة له (كل حسب طاقته).
أما عملية نقل بعض أو كل الصلاحيات لاتخاذ القرارات من الشخص الذي له السلطة إلى أي شخص ليس له سلطة فهى ما تعرف "بتفويض السلطات أو الإنابة" وفي الحياة العملية تتم عملية الإنابة وتفويض السلطة من خلال ما يعرف بنظام " لا مركزية الإدارة " ويتطلب التوسع في استخدام نظام لامركزية الإدارة إلى القيام بتوسع مماثل في إجراءات المتابعة والرقابة على أعمال وأداء من تم لهم تفويض السلطات والصلاحيات.
والمتأمل للكتاب المقدس يعرف إلى أي مدى يمكن اعتبار عملية تفويض السلطة هي"مبدأً كتابي". وحيث أن من الصعب حصر المواقف والأمثلة التي في العهد القديم الدالة على إن مبدأ تفويض السلطة هو مبدأ كتابي، فإننا سوف نعتمد على أمثلة واضحة من العهد الجديد، ليس بغرض إثبات سبق التعاليم المسيحية للأخذ بهذا المنهج الإداري، بقدر ما هو تدليلًا على أهمية استخدام هذا المنهج، هذه الأهمية التي جعلت السيد المسيح له المجد قام بنفسه بتفويض السلطات والصلاحيات، والأكثر من ذلك الإعلان صراحة عنها. وهذا ما سوف نتعرف عليه تباعا خلال السطور القليلة القادمة.
فمثلًا ماذا يعني قول السيد الرب. "دُفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 18 - 20). وكذلك قول الرب "ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء" (لو 10: 19).
كما يتضح من هذه الآيات فأنها تؤكد –بما لا يدع مجالا للشك– إهتمام السيد المسيح بمنهج "تفويض السلطات" وحيث أن كل تعاليم السيد المسيح هي "دستور حياة" روحي ودنيوى، فإن الإطار المصاحب لعملية تفويض السلطات كان مرشدًا يجب التعلم منه ومحاكاته. فقد سبق عملية التفويض فترة تقارب الثلاثة سنوات يقوم فيها رب المجد بتعليم وتدريب التلاميذ حتى
وصلوا إلى المرحلة التي يمكنهم فيها تحمل المسؤولية، وليس هذا فقط بل أن عملية تفويض السلطة –كما توضحه الآيات– قد صاحبها طمأنة التلاميذ، بأن السلطان الممنوح لهم سلطانًا سماويًا يجعلهم قادرين أن يدوسوا الحيات والعقارب وأى روح نجس وكل قوة العدو ولا يضرهم شيئًا، كما عزاهم أيضا من خلال روح الحق المعزى (الروح القدس) الذي وعدهم بأن يحل عليهم قبل القيام بأى التزامات أو مسؤوليات تم تكليفهم بها سواء في التبشير أو التعميد أو تلمذة الآخرين. وطمأنهم كذلك من خلال الوعد لهم بأنه – أي المسيح الرب – سوف يكون معهم (كل الأيام إلى إنقضاء الدهر)
والمدقق في الآيات أيضًا يجد في تعزية الرب يسوع لتلاميذه "وها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" ما يعنى ضمنيا القيام بوظيفة المتابعة الروحية المستمرة، والتعضيد اللازم للتلاميذ أثناء قيامهم بتنفيذ الالتزامات الواقع عليهم عبئها، ولمن يليهم من أجيال وتلاميذ. من جهة أخرى تعكس الآيات السابقة (مت 28، لو 10) مبدأ التسليم والتسلُم في كل التعاليم المسيحية الذي تؤمن به الكنيسة القبطية، إذ يوضح كيفية إتمام عملية التسليم والتسلُم في سر المعمودية (أحد أسرار كنيستنا السبعة)، وبالمثل توضح الآيات ضرورة استمرار عملية التسليم والتسلُم لمنهج تفويض السلطات "كمبدأ تعليمى"، ويظهر هذا الأمر جليًا في الآيات "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم"، "وعلموهم أن يحفظوا جميع ما اوصيتكم به". وكما عكست الآيات السابقة أهمية مبدأ التسليم والتسلم كمنهج إداري، فهى تعتبر في نفس الوقت ترجمة حقيقية للمحبة كفلسفة مسيحية إدارية يجب الإيمان بها.
إن آيات الكتاب المقدس الدالة على قيام السيد المسيح بمنح الصلاحيات وتفويض السلطات لتلاميذه كثيرة يمكن الرجوع إليها في (مت 10: 1)، (لو 9: 1 - 6)، (لو 10: 1 - 17)، (مر 16: 15 - 18).
أما فيما يتعلق بهذه الآية "اسهروا وصلوا، لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت. كأنما إنسان مسافر ترك بيته، وأعطى عبيده السلطان، ولكل واحد عمله، وأوصى البواب أن يسهر" (مر 13: 33، 34)، فهي تعلمنا أهمية التعاليم الروحية الإدارية: الإنابة وتفويض السلطات، والتخصص وتوزيع العمل والأدوار.. هذا بالإضافة إلى التعاليم الروحية من سهّر وصلاة واستعداد روحي وجهاد.... إلخ..
ويعتقد المؤلف أن أكبر عملية تفويض سلطات وصلاحيات قد تمت أو يمكن أن تتم هي التي قام بها السيد المسيح عند تأسيس سر الكهنوت. فكما جاء في انجيل يوحنا: فقال لهم يسوع أيضا: "سلام لكم! كما أرسلني الآب أرسلكم أنا". ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت". (يو 20: 21 - 23). وكما يتضح من هذه الآيات فقد منح السيد الرب تلاميذه سلطان "مغفرة الخطايا" بالإضافة إلى سلطان "الحل والربط" التي توضحه آيات إنجيل متى (مت 16: 19)، (مت 28: 18 - 20).
ويوضح الكتاب المقدس في سفر أعمال الرسل قيام التلاميذ أيضًا بعملية إنابة وتفويض سلطات. حيث دعا الإثنى عشر جمهور التلاميذ وقالوا "لا يرضى أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد. فانتخبوا ايها الاخوة سبعة رجال منكم، مشهودا لهم ومملوئين من الروح القدس وحكمة" (أع 6: 2، 3)، دون الدخول في شرح تفاصيل إدارية سنتعرض لها في مواضع أخرى من هذا الكتاب، فإن الآيات تعلمنا – بالإضافة إلى أهمية مبدأ تفويض السلطات– ضرورة إشباع الحاجات الروحية والجسدية، وكيفية الاختيار الروحي للمسئولين أو القادة، والديمقراطية التي يجب أن تتمتع بها عملية الاختيار، كما توضح الآيات أيضًا بعضًا من الشروط الكتابية التي يجب أن تتوافر فيمن يجب أن تشملهم عملية الاختيار من ناحية السمعة الطيبة والامتلاء من الروح القدس والحكمة...إلخ.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
إن المقصود بالهيكل التنظيمي هو: الخريطة التي تتم من خلالها عمليات تفويض السلطات وتسلُمها ومن ثم اتخاذ القرارات. وقد تأخذ الهياكل التنظيمية لأى كيان دينى أو سياسي أو عسكرى أو اقتصادي أشكالًا تنظيمية كثيرة، لعل من أهمها∙: الهيكل التنظيمي الهرمي المدبب لأعلى (الذي تكون فيه رأس السلطة في القمة)، أو المدبب لأسفل (الذي تكون فيه السلطة بطول قاعدة الهرم). الهيكل التنظيمى الأفقي (وهو تنظيم هرمي لا تزيد مستوياته الإدارية عن مستويين أو ثلاثة). الهيكل التنظيمى الدائرى (وفيه تتركز الرئاسة في مركز الدائرة ثم تنتقل إلى جميع الجهات). الهيكل التنظيمى العنقودى (وفيه تكون الرئاسة غير معلومة وليس هناك ترتيب لتفويض السلطات وهذا لا يمنع من وجود مستويات إدارية) ويتناسب هذا الشكل التنظيمي في الغالب مع التنظيمات غير الرسمية أو الأعمال غير الشرعية أو الإرهابية. ∙
ويعتبر الهيكل التنظيمي الهرمي المدبب لأعلى هو أكثر الأشكال التنظيمية استخدامًا وشيوعًا في الحياة العملية. ويرى المؤلف أن شيوع استخدام الهيكل التنظيمى الهرمى أمرًا يقبله العقل، حيث من المنطقى أن يرأس أي كيان – صغير كالأسرة أو كبير كالدولة – شخص واحد، يكون مصدر السلطات والمسؤول الذي يمكن الرجوع عليه. وتتعدد المستويات الإدارية المساعدة لتتراوح في الغالب بين 3 – 8 مستويات إدارية حسب نوع الكيان الإداري أو المنظمة.
إن البداية في التنظيم الإداري الهرمى في العمل السياسي ترجع إلى وجود رئيس القبيلة أو الجيش أو الدولة بأعلى السلطة،
كما ترجع في مجال الأعمال إلى وجود صاحب المال على قمة النشاط ويلاحظ أن وجود هذا الشكل الهرمى –في هاتين الحالتين– يرجع إلى الرغبة في تجميع البيانات والمعلومات من أسفل إلى أعلى، وإلى إصدار الأوامر والتعليمات من أعلى إلى أسفل.
إن التدرج الرئاسي في الهرم التنظيمي تبدأ برئيس مجلس الإدارة. ثم في المرحلة التالية يأتى نواب ومساعدي الرئيس وأعضاء مجلس الإدارة. وقد يأتى في هذه المرحلة أيضًا المراقب المالي وخبير التدريب والمستشار المالي والقانوني وكذلك الأعمال المساعدة من سكرتارية وحراسة وأمن.. إلخ.. ثم تأتى مرحلة مديرى التنفيذ في الإنتاج والتسويق والتمويل والأفراد. ثم مرحلة المشرفين التنفيذيين المتصلين مباشرة بعمال الإنتاج أو رجال البيع.. إلخ..
وفي السنوات الأخيرة باتت الحاجة مُلحة على مستوى التنظيم والإدارة إلى التبسيط في السلاسل والمستويات الإدارية، وذلك من خلال محاولة ضغط الحلقات الإدارية الوسيطة بين مستويات الإدارة العليا والمستويات الإدارية التنفيذية التي في أسفل الهيكل التنظيمى. وحتى يتم ذلك فإنه لا بُد من تهيئة المستويات التنفيذية الدنيا لكي تتحمل المزيد من المهام التي كانت تقع على عاتق المستويات الإدارية الوسطى. وذلك من خلال تأهيلهم التأهيل المناسب بالتدريب ورفع الكفاءة، مع اعطاء المزيد من الصلاحيات والسلطات اللازمة لاتخاذ القرارات.
والآن وقبل أن نتعرف على التعاليم المسيحية والهيكل التنظيمى. نود أن نعتذر عن الإطالة المقصودة في الشرح التفصيلى للهياكل الإدارية والتي سنعود إلى السبب منها بعد قليل. أما عن التعاليم المسيحية والتنظيم، فإن الكتاب المقدس يوضح لنا كيف أهتم الرب بتدبير أمور شعبه قديمًا منذ النبي نوح تقريبًا وبعده أبينا إبراهيم واسحق ويعقوب. حيث قد اختار الرب هؤلاء الأنبياء لرعاية شعبه وكان يعطيهم التعليمات اللازمة لعملية تدبير وتصريف شئون الشعب بشكل مستمر. واستمر الحال مع أولاد يعقوب أو أسباط إسرائيل أيضًا، في تدبير قيادات روحية وعلمانية متنوعة للشعب. واستمر الحال بتفصيل أكثر وبتدقيق أكبر مع موسى النبي الذي استلم أول شريعة مكتوبة بأصابع الله نفسه... وهكذا.
ولكن ماذا عن كنيسة العهد الجديد. هل يتركها الرب يسوع وهو القائل "حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمى أكون في وسطهم" (مت 18 20)، حاشا لله أن يفعل ذلك. إن الرسول بولس يذكر أن السيد المسيح هو رأس الكنيسة (أف 5: 23). معنى ذلك أن الكنيسة المجاهدة على الأرض ككيان تنظيمى يرأسها أو يجلس على قمة هيكلها الإداري "الرب يسوع". وقد إختار الرب يسوع عدد (12) تلميذا و(70) رسولًا وأعطاهم السلطات والصلاحيات اللازمة، وأرسلهم ليكرزوا ويبشرون بين الأمم، وعليه فإننا يمكن مجازًا إعتبار التلاميذ والرسل (مستوى تنظيمى ثان) بعد رب المجد يسوع له كل المجد.
ونفس الشيء قد فعله التلاميذ والرسل في كل بلد بشروا فيها، فقد أقاموا لهم تلاميذ "أساقفة وشمامسة" وتم تفويض السلطات والصلاحيات لهم (كمستويات تنظيمية تالية). أما باقى الشعب من المؤمنين الذين هم أعضاء في الجسد الواحد وهو الكنيسة –التي رأسها الرب يسوع– فيمكن اعتبارها (قاعدة الهرم التنظيمي).
ثم بعد ذلك إتسع الهيكل التنظيمي في الكنائس. فمثلا على مستوى الكنيسة القبطية يبدأ الهيكل التنظيمى من البابا البطريرك كرأس الكنيسة، يساعده عدد من المطارنة والأساقفة،
ويساعد كل أسقف عدد من القمامصة والقسوس، ويساعد كل قس في الكنيسة عددًا من الشمامسة والخدام... وهكذا.
نعود إلى سبب الإطالة المقصودة في المقدمة التي تناولنا بها الهيكل التنظيمي، والتي تبين إلى أي مدى يتم الأهتمام بكل مستوى إداري من مستويات الهيكل التنظيمي الهرمي للمؤسسات أو منظمات الأعمال، وكذلك بكل جزئية فرعية وصغيرة داخل المستوى الإداري الواحد. ومع كل هذا الأهتمام بتفاصيل جزيئات الهيكل التنظيمى يكون السؤال: هل يمكن إيجاد مكان – ولو بصورة رمزية – للرب يسوع بالهيكل التنظيمى بحيث يحكم أو يوجه السلوك الإداري للمنظمة الدنيوية؟
قد يكون هذا السؤال خياليا من الناحية النظرية. ولكنه سيظل مطروحا لما له من أهمية عملية كبيرة على توجيه السلوك الإداري للمنظمة سواء كانت روحية أو دنيوية، بما يحقق أهداف كل من المنظمة وجميع الأطراف المحيطة بها فهل من مُجيب؟
يوضح الكتاب المقدس بسفر التكوين قصة الخليقة التي تمت خلال الأيام الستة، ويوضح كيفية نشوء الكائنات على الأرض بتدرج عجيب بدءًا من الأدنى إلى الأرقى، وذلك بعدما أصبحت الأرض صالحة للحياة ولإستقبال الكائنات الحية. حيث ظهرت الأحياء الدنيئة ثم النباتات القليلة كالأعشاب فالأشجار، ثم ظهرت الحيوانات المائية ثم الزواحف والطيور ثم الحيوانات البرية وأخيرا أكثر الكائنات الحية رقيًا (الإنسان).
واستكمالًا لما سبق يذكر الأرشيدياكون "نجيب جرجس" في كتابه عن "تفسير سفر التكوين" خمسة عشرة عملية للخلق يتفق فيها الكتاب المقدس مع العلماء وهي∙:
- تكوين العوالم الأولى قبل النظام الشمسى حيث يقول الكتاب في هذا (في البدء خلق الله السموات والأرض).
- ظهور النور من السديم أو من غيره.
- ظهور الجلد حيث بردت قشرة الأرض وامتزجت الغازات ببعضها مكونة الهواء والماء.
- ثم تقلصت قشرة الأرض وتمددت وظهرت فيها مرتفعات ومنخفضات فانفصلت المياه عن اليابسة،
- وظهرت النباتات الدنيئة،
- والأعشاب،
- ثم البقول،
- ثم الأشجار المثمرة.
- وإبتدأت الأبخرة تنحل من حول الأرض فظهرت الشمس والقمر والنجوم فتكونت الأيام والفصول،
- وظهرت الحيوانات البحرية،
- ثم الطيور،
- ثم الحيوانات المائية الكبيرة جدا كالتنين،
- ثم وحوش هائلة كالدين سيريوم،
- ثم البهائم وباقى الحيوانات،
- ثم الإنسان.
وبالنظر إلى العمليات الخمسة عشر السابقة نجد أنها تغطي النظام الكوني الكبير المرئى. والذي يتكون بدوره من أنظمة فرعية متنوعة ومتكاملة مع بعضها البعض في تناغم وانسجام عجيب. حيث يعمل كل نظام فرعي طبقا لما هو مرسوم ومحدد له، ومحكومًا بقوانين محددة ودقيقة سواء في المكان أو الزمان أو كيفية العمل بشكل ثابت ومستقر... إلخ. من أمثلة هذه الأنظمة الفرعية نجد:
* نظام المجموعة الشمسية وحركة النجوم والكواكب والمجرات وتعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة.
* أنظمة العمل الداخلية المصاحبة لكل كائن من نباتات ثم الأشجار، وبعدها الحشرات ثم الطيور والحيوانات. من حيث دورة الحياة منذ الظهور أو الميلاد حتى الإنتهاء أو الوفاة، وما تحتاجه هذه الفترة عند التكوين والغذاء والتنفس... إلخ..
* جسم الإنسان كنظام متكامل يتكون من عدة أنظمة فرعية كالدورة الدموية والنظام التنفسي والهضمي والعقلي والبصري والسمعي... وغيرها. وتعمل كلها في اتساق وتكامل كوحدة واحدة.
ويذكر قداسة البابا شنودة في محاضرة له بعنوان "النظام"، ألقاها بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية في 17 / 3 / 2010:
أن الخليقة كلها تمت بنظام عظيم وعجيب، والفلك يعمل بنظام دقيق وثابت. وإن الملائكة أيضا تعمل بنظام ولها رتب وتخصصات يكلف على أساسها كل منها: فيوجد من يقوم بالبشارة، ومن يقوم برفع صلوات المؤمنين، ومن يقوم بحراسة وحماية المؤمنين...وهكذا. والكل يعمل ويُسبح ويُمجد رب القوات داخل منظومة ملائكية سماوية مقدسة.
وكذلك الخدمات الكنسية والصلوات والقراءات اليومية كلها تتم بترتيب دقيق وداخل منظومة روحية كبناء متكامل. والنظام في الكنيسة ثابت ومستقر منذ العصور الأولى في الكنيسة، فنجده في ترتيب صلوات الأجبية والمزامير والقداسات وأسبوع الآلام... إلخ.. وبالمثل كل ما قد تسلمنا من ترتيب لكل صيامات كنيستنا القبطية. وحتى على مستوى الرتب الكنسية والكهنوتية نجد أن في الشموسية خمس رتب ولكل منها تخصص، مثل (المرتل، القارئ، مساعد شماس، شماس، رئيس شمامسة)، نفس الشيء في الدرجات الكهنوتية الأخرى. وأسفار الكتاب المقدس أيضا تعتمد على نظام دقيق في ترتيبها، فنجد فيها (الناموس، التاريخ، والحكمة، والنبؤات)، وذلك على مستوى كل من العهد القديم والعهد الجديد.
إن الشرح السابق يوضح إلى أي مدى يدير الرب العلى هذا الكون، بترتيب ونظام إلهي عجيب كوحدة واحدة كخالق ومدبر وضابط للكل، فلا يستطيع أي نظام فرعى من أنظمة الكون أن يخرج عن المسار الطبيعي أو الكون له، كما لا يستطيع أن لا يقوم النظام الفرعي بكل وظائفه المحددة له دون أي خلل عن المنظومة الكلية.
كما يعلمنا الشرح السابق أيضا أهمية أن تدور الأنظمة الإدارية الوضعية التي من صنع الإنسان– في فلك الأنظمة الطبيعية، أو بمعنى آخر على الأنظمة الإدارية أن تحاكى الأنظمة الإلهية، أي تكون على مثالها سواء من حيث التصميم أو طريقة العمل أو الإنضباط أو التكامل في كل أنظمتها الفرعية... إلخ..
ويصلح هذا الفكر لوضع أنظمة إدارية عامة في مجال الحكم المحلى أو التعليم أو الصحة أو المرور... إلخ.. ثم بعد ذلك يتم وضع الأنظمة الفرعية لكل قطاع من القطاعات السابقة في اتساق وتكامل مع أنظمتها العامة التي تتبع لها. فعلي سبيل المثال يمكن وضع منظومة عامة للتعليم، يلى ذلك وضع أنظمة فرعية – من خلال النظام العام للتعليم– على مستوى التعليم الابتدائي ثم الإعدادي ثم الثانوى (عام، وفنى زراعى وتجاري وصناعى)، ثم يعاد تقسيم هذه الأنظمة الفرعية جغرافيا على مستوى المحافظات والمناطق التعليمية. وفي هذا الصدد يجدر الإشارة إلى ضرورة أن يرتبط النظام العام للتعليم بإستراتيجية تعليمية عامة تكون واضحة ومحددة بدقة، لا تتغير بتغير الوزير أو من يجلس على قمة الهرم التعليمي بمصر. نفس الشيء في مجال الصحة أو الحكم المحلى أو الضرائب أو المرور... إلخ..
وإذا كان هذا هو الحال لما يمكن أن يحدث على مستوى الأنظمة الإدارية العامة بالقطاعات الحكومية فما هو الحال بالنسبة للمؤسسات التجارية وقطاع الأعمال. بالطبع يمكن وضع منظومة عامة متكاملة للمؤسسة التجارية أو الشركة. ثم بعد ذلك يتم وضع أنظمة فرعية على مستوى الإنتاج أو التسويق أو التمويل أو العنصر البشرى، بحيث تترابط وتتكامل هذه الأنظمة الفرعية في النظام العام للمؤسسة التجارية كبنيان واحد.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-management/organization.html
تقصير الرابط:
tak.la/m8td595