أيها الأعزاء:
إن هذا السر كباقي الأسرار، لا بُد له من مادة منظورة ومادته المنظورة هي الخبز والخمر، وبواسطة صلاة الكاهن المُشَرْطَن المُعْطَى السلطان وكيل سرائر الله، فيحل الروح القدس عليهما، فيتحولان إلى جسد يسوع المسيح ودمه. ولكن قومًا يزعمون أن الخبز والخمر لا يستحيلان إلى جسد المسيح ودمه الاقدسين.
فلهؤلاء أوجه الكلام قائلًا: إن المسيح أخذ مرة خمسة خبزات وصلَّى عليها وباركها، فأكلت منها جموع كثيرة جدًا، وبقى اثنتي عشرة قفة. وفي مرة ثانية كان عدد الخبزات سبعة، ومع ذلك أشبعت جموعًا غفيرة، وبقيت سبعة سلال. فهل يمكن تعليل كيف أن هذا الخبز القليل أشبع هذه الجموع الغفيرة؟! وما تبقى يكون أكثر منها قبل الصلاة مع أن حجمها لم يَزِد؟ فهل في استطاعة الإنسان أن يقبل هذا بالعيان الملموس المحسوس؟ نعم، أمامي خبز وخمر، ولكني لا أحكم بالعيان، ولكن بما قاله فم الرب "هذا هو جسدي وهذا هو دمي"، فأومن وأعترف بأنهما جسد ودم حقيقيان ليسوع المسيح، ظاهرهما يخالف باطنهما.
قرأت كتابًا من كتب أصحاب المذاهب الحديثة، فوجدتهم يعترفون بالإيمان قولًا وينكرونه عملًا! فيقول: "عندنا من الأسرار سِراَّن: سر العشاء الرباني وسر المعمودية". ونحن نؤمن أنه بعد الصلاة والتقديس والتكريس والخدمة، هذا الخبز يؤخذ بالإيمان وليس بالعيان، وتكون له قوة وفاعلية جسد المسيح ودمه. فكأني أقول: بالإيمان أتناول جسد المسيح ودمه تحت عرضي الخبز والخمر. ولكن ليتهم وقفوا عند هذا الحد لأنهم يقولون كلامًا يخالفونه عملًا.
كنت تلميذًا في إحدى مدارسهم بالإسكندرية، وكان عمری أربع عشرة سنة. وفي صباح يوم كان عندهم سر العشاء الرباني. كسروا الخبز ووضعوه في طبق، وكان كل منهم يتناول جزءًا من الأجزاء. وما تبقى أخذه الخادم ووضعه في نافذة. ولما انفض الاجتماع قابلت أحد الخدام وقلت له: يا شيخ فلان، ماذا يحدث للجزء الذي وُضِعَ في النافذة؟ قال: هذا لا يهمنا حتى ولو أكلته الكلاب! وصدقوني هذا الكلام حصل، ولا تظنوا في الأمر مبالغة. فقلت له: ولكن ما هو إيمانك فيه؟ فكرر لي الكلمات: أنه جسد المسيح ودمه تحت عرضي الخبز والخمر. فقلت له: ما الذي خصص هذا الخبز حتى أصبح شبه جسد المسيح وهذا الخمر شبه دم المسيح؟ فقال لي: الصلاة. قلت له: إذًا بواسطة الصلاة كُرِّس وخُصِّص وأُدْرِج شبه جسد المسيح ودمه. فهل كانت الصلاة على القطع التي تناولتموها أم على الكل؟ فقال: صليت على الكل، فقلت له: إذًا كيف نعطيه للكلاب؟! فصمت برهة ثم قال: إنها غلطة. هل غلطة في شريعة الله؟ ليت الله يرحمنا وييقظ قلوبنا ويرشدنا إلى حقائق الإيمان حتى نَتَجَنَّب التعاليم المُغَايرة للإنجيل المقدس، التي جعلت الناس ينظرون إلى هذا السر باحتقار واستخفاف، مع أن الروح القدس وضع كل أسراره للاحترام. ويُظْهِر لنا بولس الرسول قداسة هذا السر المبارك بقوله: "إذًا أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه" (1 كو 27:11) فالأكل بدون استحقاق ليس هو استخفاف بخير وخمر عاديين بل يجسد الرب ودمه لأن الصلاة أحالتها إلى جسد الرب ودمه الأقدسين. ويوضح لنا الرسول شدة وجوب الاهتمام بهذا السر فيقول "ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس. لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق، يأكل ويشرب دينونة لنفسه، غير مُمَيِّز جسد الرب" (1كو 11: 28-29).
فيجب التدقيق والفحص قبل القدوم للتناول من هذا السر، لأنه من عمل الروح القدس، وكل مَنْ يتقدم إلى هذا السر بدون استحقاق يقول الكتاب عنه أنه "يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب" فأنت لا تأكل خبزًا وخمرًا عاديين ولكن جسد الرب ودمه وإلا فأين عمل الله الخفي؟ فإذا كان لا فرق بين الحالتين قبل الصلاة وبعدها فأين يكون عمل الروح القدس؟
وفضلًا عن وقوع المُتَقَدِّم إلى هذا السر بدون استحقاق في الدينونة، فالكتاب يعلن لنا أكثر من ذلك إذ يقول: "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضَى، وكثيرون يرقدون" (1كو 11: 30). والسبب في ذلك إهانة جسد الرب ودمه الأقدسين. فليت الله ييقظ قلوبنا، ويُنَبِّه أرواحنا لكي نفهم ونصدق حقائق الإيمان.
نعم، إن التعاليم الفاسدة التي دخلت الكنيسة شَكَّكَت الأفكار، وأهملت الأسرار، وقَلَّلَت من قيمتها وهيبتها. واليكم حادِثَة رأيتها بعيني رأسي. كنت في الإجازة من مدة 30 سنة في بني سويف، ونزلت عند أحد أقربائي، وذات يوم رأيت أحد شُبَّان العائلة يشتم أمه استخفافًا واحتقارًا لها! فخجلت الأم وتألمت جدًا. وفي الصباح دعوت رب العائلة للذهاب معي إلى الكنيسة، فاعتذر لوجود مائدة في كنيستهم، لأنه كان شيخ مجمع تبع احدی المذاهب. فتناول هو والشعب وابنه. فلما عدت من الكنيسة سألت الشاب: هل اشتركت على المائدة اليوم؟ فقال: نعم. فقلت له: هل صالحت أمك؟ وهنا أجابت الأم على الفور: هذا شيء بسيط، (كتَّر خيره اللي ما ضربنيش قدامك)! فهل هذا احترام الأسرار؟!
أيها الأعزاء:
سامحوني إذا صَرَّحت لكم حقًا أنهم لا يأكلون جسد المسيح ولا يشربون دمه، لأن هذا السر لا يُمَارَس عندهم ممارسة شرعية، ولا يتم بالطريقة التي رسمها الكتاب المقدس، التي بدونها لا يتم السر. فالخبز والخمر هما قبل الصلاة كما هما بعد الصلاة، لأن عمل الله لا يتم على غير طريقته.
أيها الأعزاء:
أسأل الله أن يُيقظ قلوبنا، ويرشدنا إلى معرفة الحق حتى نثبت ونفهم تعاليم هذا السر المقدس.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لما ندخل في الكنائس القديمة الأثرية نجد في خلف كل مذبح مَخْبأ صغير في جهة الشرق، وذلك لأنه كان في أيام الحكم الروماني اضطهاد عظيم على المسيحية، فكانوا يداهمون الكنيسة بخيولهم ويلزمون الكنيسة بتقديم جسد الرب ودمه إلى خيولهم! ولكن كان أولئك الخدام الأمناء يقدمون رقابهم للسيف ولا يُسَلِّمون في تلك الذبيحة المقدسة، ولذلك رسم آباء الكنيسة أن يُعْمَل مخبأ تُوضَع فيه الذبيحة ساعة الخطر. وكان الشماس يقف أمام الكاهن موليًا وجهه جهة الغرب حيث الباب، حتى إذا رأى الأعداء مقبلين نَبَّه الكاهن إلى ذلك، فيسلمه الصينية بما عليها من الأسرار فيخبئها. وعندما تأتي الأعداء يقدم الكاهن والشماس رِقابهما للسيف، ولا يُسَلِّمان ذبيحتهما. فإذا كان هذا خبزًا وخمرًا كما يزعمون، هل كان الله يرضَى بتسليم أولئك الخدام الأمناء للموت! كلا، ولكن لكونها جسد المسيح ودمه الأقدسان، فالكنيسة تكرم هذا السر المقدس لأنها تعرِف حقيقته. ألا ترون أيها الأعزاء في هذه العيون (المخابئ) الموجودة بالمذابح دليلًا تاريخيًّا يشهد بمقدار اهتمام الكنيسة بهذا السر الرهيب؟
أيها الأعزاء:
سمعت عن حادثة في مديرية الجيزة؛ خُلاصتها أنه كان لمسيحي طفل وحيد وكان مريضًا، وذهب به إلى الأطباء، فقدموا له أدوية وعقاقير كثيرة ولكنها لم تُجْدِ نفعًا. فذهب به إلى العرَّافين والعرَّافات. وكان الرب يطيل أناته عليه. ومن بين الذين استشارهم في أمر ابنه رجل مغربي، وشاء الرب أن يُظْهِر مجده وسلطانه. وبعد أن تَمْتَم المغربي وضرب وجمع، صاح: استغفر الله العظيم! فارتاع الأب وقال له: أفصِح لي، هل سيموت الولد؟! فقال المغربي: لا. ثم عاد الرجل يضرب ويجمع ثانية ثم صاح ثانية: استغفر الله العظيم! فقال الوالد: أخبرني بالأمر مهما يكون. فطوى المغربي دفاتره وقال: لا! لا! كلا، لا أستطيع أن أنطق به. وبعد إلحاح شديد قال المغربي: إن لم يأكل جسد الرب ودمه لا يحيا. فلما سمع الأب هذه الكلمات انهمرت الدموع من عينيه، وسجد على الأرض، ثم قال: أخطأت يا رب إذ تركتك وذهبت وراء الضالين. فاستغرب المغربي ذلك وسأل الوالد: هل هذا عندكم؟ فأجاب: نعم، وتعال معي أريك. وعندئذ أخذ الوالد ابنه والمغربي وذهب إلى الكنيسة وَقَدَّم نفسه للقس، وهناك وقف المغربي أمام الهيكل حيث الله مستعد أن يكشف الآيات والعجائب لغير المؤمنين، لأن المؤمنين لا يحتاجون إلى بُرهان بل يكفيهم كلام الإنجيل. وعندما حان وقت التوزيع رأى المغربي أن الكاهن يُمَزِّق طفلًا صغيرًا(8)، فصاح المغربي قائلًا: حرام عليك!! وأخيرًا كشف الله له السر المقدس، وبالإيمان خرج الطفل معافَى والمغربي مؤمنًا بالمسيح.
ولكن تعالوا في هذه الأيام. أين السر؟ أين النعمة؟!
دخلت في كنيسة من الكنائس المسيحية فوجدتهم يضعون الخمر في كاسات بقدر عدد المتناولين. فإذا سئُلِوا: لماذا تفعلون ذلك مع أن المسيح قَدَّم كأسًا واحدة للجميع، يجيبون على الفور: خوفًا من العدوَى. هل السر الإلهي الذي يُعْطَى للحياة، يكون سببًا للموت ونقل العدوَى؟! أيها الأعزاء: إن المريض إذا تناول من هذا السر المقدس يُشْفَي. فليت الله ييقظ قلوبنا وَيُنَبِّه أرواحنا ويفتح أبصارنا لنرى الحق ولا نحيد عنه قيد شعرة.
_____
(8) توضيح من الموقع: هذه القصة أسلوبها غريب ولا نميل إليه، وهناك أكثر من جانب فيها نود أن نوضحه للقارئ:
لم يَقُل المؤلف أنه شاهَد ما حدث بنفسه، أو حضر الموقع، بل قال "سمعت"، فهو أمر سمعه ونقله في إطار توضيح الفكرة ليس إلا.
هذه القصة في حد ذاتها ليست دليلًا على صحة التناول، ولا يستخدمها المؤلف لهذا الغرض، بل الكتاب كله مليء بالشواهد والآيات والموضوعات التي تثبت أهمية التناول وصحته، وهذه مجرد قصة جانبية في نهاية الكتاب.
ينبغي التحقيق الشديد في أي قصة أو خبر عن معجزة قبل التسليم بها أو الموافقة على أنها حدثت بالفعل.
إن كان هذا حدث بالفعل، فهو بالتأكيد ليس أمرًا حرفيًّا، بل مجرد تفسير لمشهد أو رؤيا رآها ذلك الرجل ليصدق أو يؤمن أن هذا الرجل الأمر، حسبما يستوعب عقله أو يُفسر ما رآه، فهو أمر حدث له فقط بدليل أن مَنْ حوله لم يروا الأمر.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iskander-hanna/eucharist/deviant-sects.html
تقصير الرابط:
tak.la/h9kpps6