س 62: ما هو مفهوم الروح القدس في الإسلام؟
فقد ذكر أحد الكتَّاب الذين يهاجمون الثالوث أن الروح القدس هو القوة التي تهب الحياة أو القوة التي تؤيد الأنبياء، وتكلم عليه بصيغة المؤنث فيقول: "وكما وردت روح الله القدس بمعنى القوة التي تُحدِث الحياة في الكائنات، وردت كذلك بمعنى القوة التي يبعثها الله لتأييد أنبيائه المكافحين". يقول الله عن رسوله "عيسى عليه السلام": "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" (البقرة)، ويقول عنه أيضًا: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس" (المائدة)، فالله سبحانه وتعالى قد أيد المسيح عيسى بروح من عنده، أي بقوة من لدنه تعالى... من هذا نعلم أن روح الله القدس هيَ القوة التي يؤيد الله بها أنبياءه وأولياءه لنشر العدل ومحاربة الضلال. يقول الله عن رسله المكرمين: "أولئـك كتب فـي قلوبهـم الإيمان وأيدهم بروح منه" (المجادلة 22) (196).
وأدعى الكاتب أن روح الله مخلوق فقال: "هكذا يمد الله بروحه وقوته المؤمنين والعاملين بوصاياه، وهكذا يرسل الله روحه تشد أزر عباده المخلصين، فروح الله القدوس هيَ قوة من خلقه تعالى تتوجه بأمره وإرادته إلى من يريد، وإلى حيث يريد، لتأييد وتعضيد أي يريد" (197).
كما قال الكاتب: "أن الروح القدس هو جبريل" الروح القدس هو الروح الطاهر، الروح المبارك، الروح الأمين، ذلك أن القدس في اللغة معناها "الطهر أو البركة"، ومن هنا أُطلق الروح القدس على الملاك جبريل عليه السلام، يتحدث الله عن تنزيل القرآن فيقول لرسوله الكريم: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} (النحل 102)، ويقول سبحانه أيضًا عن القرآن وجبريل: {وأنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} (الشعراء 193، 194).. وجبريل روح الله، هذا الروح الكريم المبعوث من لدن الله، هو الذي بشر مريم العذراء بمولودها الكريم، السيد المسيح... وهو ما أورده القرآن الكريم في قوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا} (مريم 17) (198).
وقال: "إن الروح القدس هو "الملائكة الأطهار"، وهؤلاء الملائكة هم روح الله "وجبريل الملاك الطاهر وباقي الملائكة الأطهار هم روح الله، فهم أرواح من قبل الله، أرواح قدسية طاهرة مباركة، أنهم قوة الله وروحه تؤيد الأنبياء وتعضد المؤمنين وتحقق إرادة الله في ملكه وملكوته" (199).. فما رأيك في هذه الأقوال؟
ج: الحقيقة أن هذا التخبط لدى الكاتب يرجع إلى عدم وجود مفهوم واضح للروح القدس في الإسلام، فقد تباينت الآراء عن حقيقة الروح القدس حتى وصلت إلى نحو خمسة عشر رأيًا جاءت تعليقًا على عشرين نصًا من القرآن ورد فيه اسم الروح القدس، ودعنا يا صديقي نعرض هذه الآراء المختلفة:
كما ذكره الكاتب السابق تعليقًا على قول القرآن: "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انك مُفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون. قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل 101، 102)، وجاء في مختار الصحاح تحت كلمة " قدس": "روح القدس جبرائيل عليه السلام" وذكر البيضاوي في تفسير الآية 38 من سورة النبأ، وكذلك الطبري (مجلد 30 ص 144) أن "الروح القدس هو ملك موكل على الأرواح أو جنسها أو جبريل".
قال "الكشاف" في تفسيره للآية 38 من سورة النبأ عن الروح القدس: "هو ملك عظيم ما خلق الله بعد العرش خلقًا أعظم منه" وقال "الطبري" في تفسير نفس الآية: "هو أعظم الملائكة قدرًا... وهو خُلِق بشبه الناس وليس بالناس... هو خُلِق على صورة آدم".
فيقول "الطبري" عن الروح القدس: "ملك من السماء الرابعة وهو أعظم من في السموات ومن الجبال ومن الملائكة. يسبح الله كل يوم 12 ألف تسبحة. يخلق الله من كل تسبيحة ملكًا من الملائكة يجئ صفًا واحدًا" (الطبري جـ 30 ص 13، 14)، وقال "البيضاوي" في تفسير الآية 170 من (سورة النساء) عن الروح القدس أنه: "هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة" وأنه "أعظم خلقًا من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين" (البيضاوي المجلد 2 ص 355).
فذكر "البيضاوي" في تفسير الآية 87 من سورة البقرة عن الروح القدس": "أنه هو الذي يحيي الأموات أو القلوب"، وقال الرازي أنه: "روح الله. أنه سبب الحياة" (الرازي جـ 5 ص 521).
ذكر "الطبري" في تفسيره للآية 38 من سورة النبأ عن الروح القدس: "هو في درجة نزول الأنوار من جلال الله، ومنه تشعبت إلى أرواح سائر الملائكة والبشر"، وفي تفسير الجلالين للآية 22 من سورة المجادلة قال عن الروح القدس: "هو نور من الله"، وفي تفسير "الطبري" للآية السابقة قال عن الروح القدس: "هو برهان من الله ونور وهدى"، وقال "النيسابوري" في تفسيره لسورة المعارج: "الروح القدس هو أول درجة نزول الأنوار من جلال الله، ومنه تشعبت إلى سائر الملائكة".
ففي تفسير "البيضاوي" للآية 22 من سورة المجادلة قال عن الروح القدس: "هو رحمة من أمر الله. هو الضمير للإيمان".
ففي تفسير "الطبري" للآية 15 من سورة غافر قال عن الروح القدس: "هو الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه".
ففي تفسير "البيضاوي" للآية 85 من سورة الإسراء قال عن الروح القدس: "هو الذي استأثره الله بعلمه" وقال "الكشاف" في شرحه لسورة السجدة عن الروح القدس: "هو الذي اختص به تعالى وبمعرفته. لا يعلم كنه إلاَّ الله".
ففي تفسير "البيضاوي" للآية 87 من سورة البقرة قال عن الروح القدس: "هو إنجيل عيسى".
ففي تفسير الإمام الرازي للآية 85 من سورة الإسراء قال عن الروح القدس: "هو روح عيسى عليه الصلاة والسلام، ووضعها فيه لطهارته من مس الشيطان أو لكرامته عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك إضافة إلى نفسه تعالى". وقد ذكر القرآن أن الله أيد عيسى بالروح القدس: "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس" (المائدة 110)، "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" (البقرة 253).
ففي تفسير "البيضاوي" للآية 87 من سورة البقرة عن الروح القدس قال: "هو اسم الله الأعظم الذي كان عيسى به يحيي الموتى" وقال "الزمخشري": "إنه الإنجيل أو روح عيسى أو اسم الله الأعظم الذي يحيي به الموتى" (الزمخشري جـ1 ص 162).
فقال القرآن: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلا" (الإسراء 85)، وفي تفسير "الإمام الرازي" لهذه الآية قال: "هو الذي خلق عقول الخلق التي تقصر عن معرفته" وفي تفسير "السيد قطب" للآية 87 من سورة البقرة قال عن الروح القدس: "ما الروح القدس أو مَنْ الروح القدس الذي جاء في مواقع شتى؟.. أنه لا سبيل لإدراكه بوسائل العقل البشري وتصوراته المحدودة، ومن الخير ألاّ ننفق الطاقة في محاولة إدراك كنهه... إن روح القدس قوة خلق الله تتوجه بأمر الله وإرادة الله إلى حيث يريد الله وكما يريد الله، وهذا كل ما يملك العقل البشري أن يتصوره أو يتلقاه" (نلاحظ إنه يتساءل عن الروح القدس تارة بما لغير العاقل وتارة بمن العاقل، ثم ينصح بعدم الخوض في محاولة معرفة كنه الروح لأنه فوق مستوى إدراك العقل البشري).
"قال الشيخ "محمد الحريري البيومي" في كتاب "الروح وماهيتها": "روح القدس هو روح الأرواح، وهو المنزَّه عن الدخول تحت القول " كن" الذي كان الله يخلق به المخلوقات، ومن ثم لا يجوز أن يُقال أن الروح مخلوق، لأنه وجه خاص مـن وجوه الحق، قام الوجود بذلك الوجه، فهو روح ليس كالأرواح لأنه روح الله. وروح الله غير مخلوق، وذلك الروح هو المعبر عنه بالوجه الإلهي".
قال "السيد عبد الكريم الجبلي": "الروح القدس غير مخلوق، وغير المخلوق أزلي، والأزلي هو الله دون سواه" (مجلة كلية الآداب مايو 1934) والروح القدس لأنه هو الله فهو الذي منح الحياة للإنسان، فقال "القرآن" عن خلقة الله لآدم: "فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (سورة الحجر 29) "ثم سوَّاه ونفخ فيه من روحه" (سورة السجدة 9)، ومنح الحياة هو من عمل الله وحده، فأي مخلوق مهما علا قدره فهو لا يملك منح الحياة للآخرين...
قال "أحمد بن حنبل": "إن القول بأن الروح مخلوق بدعة والقول بأنه قديم كفر" ويقول "القس صموئيل مشرقي": "وهكذا نجد كيف استبدت الحيرة ببعضهم فيقولون أن روح الله هو ما استأثره بعمله، بينما يدفع البعض الآخر في اتجاه الخلط بين الروح الإنسانية وروح الله. وإذ ثبت غموض معنى الروح لدى من حولنا، فقد جعلوا له 15 تفسيرًا تبعث على الدهشة لكثرتها واختلافها... ومع ذلك فإن لديهم في وصف الروح ما يكفي لإثبات ألوهيته بلا شك إذ هو موصوف بأنه هو الذي يقف أمام عرشه صاغرين، وما الملائكة إلاَّ مبلغون وحية، يحرك القلوب بالكلمة وبيده الحكمة والحياة".
فكيف تدَّعون معرفة الله دون معرفة عما إذا كان لله روح في ذاته أم هيَ ذات مجردة من الروح... فكيف يكون حيًّا بدون روحه؟! إذ لم يجد مفسروكم أي تلميح أو رأي في ماهية الروح... وهل هو معاصر لله أو مشارك له في الأزلية فيلجأون إلى القول: إنه سر خفي لم يعطِ لنا إدراكه... وبينما يقولون عنه أنه مُنقطع النظير وفوق جميع المخلوقات الأُخرى، ومتصل بالله بنوع خفي وغريب وإنه غير مخلوق، إلاَّ أنهم مع ذلك قد أحجموا عن الاعتراف بأزليته؟! وذلك خوفًا من اعتباره إلهًا، ولكن هذا الموقف يكشف عن ورطة، إذ كيف تكون هذه أوصافه وتصل إلى الاعتراف له بالسلطة السامية والحضور في كل مكان إذ هو الموصوف بأنه وجه الله ومنسوب له الصدور عن الله والحلول في البشر وإنه أزلي، ومن يتجاسر على القول بأنه مخلوق يعتبر مبتدعًا، ثم يأتي التوقف دون التسليم بحقيقته، فنرى لماذا كل هذه الحيرة وهذا الاضطراب؟
فإنهم يقولون أنه غير مخلوق، ولكنهم يرفضون القول أنه قديم لئلا يعترفوا بأنه هو الله - وبالتالي يعترفون بحقيقة الأقانيم الثلاثة في ذات الله - وبعد أكثر من 15 معنى جعلوا الناس حيارى لا يدرون ما هو الروح، هل هو الله حسب قول الأئمة إذ يقولون إنه غير مخلوق، أم ليس بإله لأنه غير قديم على حد قول نفس هؤلاء الأئمة" (200).
_____
(196) الله واحد أم ثالوث ص 117 ـ 121.
(200) حقيقة الثالوث ص 100، 101.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/trinity-and-unity/holy-spirit-in-islam.html
تقصير الرابط:
tak.la/fzv8hvv