ج: جاء في النص القرآني: "وقَولِهِمْ (اليهود) إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عيسَى ابنَ مَريَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَل رفَّعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا" (سورة النساء 157، 158).
والذي يتأمل مليئًا في هذا النص يكتشف الحقيقة المخبأة فيه... وما هي هذه الحقيقة؟.. الحقيقة هي الآتي:
أـ أن اليهود أبغضوا المسيح ودبّروا أمر قتله، ولكنهم لم يقدروا أن يقتلوه، لأن مجمع السنهدريم حينذاك كان قد سُحِبَت منه سلطة إصدار حكم الإعدام "قال لهم بيلاطس خُذُوه أنتم واحكموا عليه حَسَب نامُوسِكم. فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتُل أحدًا" (يو 18: 31) ولذلك فإن الذي أصدر حكم الموت على السيد المسيح هو بيلاطس البنطي الوالي الروماني، وعندما تشدَّق اليهود بأنهم قتلوا المسيح كذَّبهم القرآن، فالنص لا ينفي حادثة الصلب وإنما نفى إدعاء اليهود بأنهم قتلوا المسيح بينما الحقيقة أن الذي أصدر حكم الإعدام هم الرومان وليس اليهود.
ويرى الدكتور عبد المجيد الشرفي (عميد كلية الآداب بتونس) أن النص القرآني "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم" لا يكفي لإثبات عدم صلب وعدم موت المسيح ولا سيما أن هناك نصوصًا أخرى تثبت موته فيقول: "وكما نفى القرآن ألوهية عيسى وعقيدة الثالوث، فإنه نفى في الآية 157 من سورة النساء أن يكون اليهود قتلوا عيسى أو صلبوه {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم... وما قتلوه يقينًا} فهل تعني هذه الآية أنه قُتِل وصُلِب ولكن على غير أيدي اليهود، أم أنه لم يُقتَل ولم يُصلَب البتة؟ لا شيء مبدئيًا يُمكّننا من ترجيح أحد الاحتمالين إن اقتصرنا على النص القرآني وحده، ولم نعتمد على السُّنة التفسيرية التي تبت في اتجاه نفس الصليب جملة في أغلب الأحيان. على أن هذه الآيات لا يجوز أن تفصل عن الآية 33 من سورة مريم {والسلام عليَّ يوم وُلِدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حيًّا} وكذلك عن الآية 55 من آل عمران {يا عيسى إني متوفيك} وعن الآية 117 من المائدة {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} وهي صريحة في أن عيسى يموت ويتوفى... يضاف إلى هذا إقرار القرآن برفع عيسى في الآية الموالية يتفق والعقيدة المسيحية في هذا الرفع"(356).
وقال عبد الرحمن سليم البغدادي (1832 ـ 1911م) وكان رئيسًا لمحكمة العراق التجارية ونائبًا في المجلس العثماني: "{وما قتلوه وما صلبوه} لا يُفهَم منها أن المسيح لم يمت قط، بل هو نص صريح في أن القتل والصلب لم يقعا على ذاته من اليهود فقط" (الفارق بين المخلوق والخالق ـ تحقيق أحمد حجازي السقا مكتبة الثقافة الدينية طبعة ثانية 1987م)(357).
ويقول د. ألدر "أن هذه الآية لا تقول أن المسيح لم يمت على الصليب، ولكنها تُقرّر أن اليهود لم يقتلوه ولم يصلبوه، وهذا تاريخيًا صحيح، رغم أنهم مسئولون عن ذلك إلاَّ أن الجنود الرومان هم الذين قاموا بهذا العمل حقًا"(358).
ب ـ ظن اليهود وتخيَّلوا أنهم بصلب المسيح قد قضوا عليه تمامًا وتخلّصوا منه إلى الأبد، ولكنهم فوجئوا بقيامته وانتصاره على الموت، وهذا ما أشار إليه النص: "بل رفعه اللَّه إليه وكان اللَّه عزيزًا" وهذا يتفق مع قول الزمخشري في تفسيره حيث قال: "خُيّل لهم... أي توهّموا أنهم قتلوه وصلبوه وتخلّصوا منه فهو ليس ميتًا بل حي لهذا رفّعه اللَّه إليه"(359).
ويقول الأستاذ موفّق سعيد: "نفي موت المسيح معنويًا: وذلك بعدم التسليم للقائلين بتغلُّب قوى الشر على قوى الخير، فهو يسفّه اليهود على تبجحهم الفارغ، لا على حقيقة الصلب والقتل والموت. فقتلهم للمسيح ليس بالقتل الذي يتوهّمون، وصلبهم له ليس بالصلب الذي يظنون، إذا ما لبث أن انبعث حيًّا وصعد إلى السماء حيث رفّعه اللَّه إليه.
لقد ظن اليهود أنهم قضوا على المسيح قضاءً مبرمًا ولاشوا ذكراه إلى الأبد فلا حاجة لأحد أن يذكره لهم، ولكن خاب فألهم، فهم لم يقتلوه نهائيًا ولم يقضوا عليـه قضاءً مبرمًا أي وما قتلوه (يقينًا) إذ أحياه اللَّه في الحال ورفّعه إليه، وكان اللَّه عزيزًا حكيمًا... أجل إن القرآن يُكذّب اليهود على تبجحهم الفارغ لا على حقيقة القتل والصلب والموت" (خطوات إنهاء الصراع بين المسيحية والإسلام. بيروت سنة 1961م ص 94 ـ 97، 112)(360).
وجاء في المجلس العشرين بعد المائة من المجالس المؤيدية "للمؤيد في دين اللَّه هبة اللَّه بن أبي عمران الشيرازي الإسماعيلي، داعي الدعاة في عصر الخليفة المنتصر باللَّه" وقوله سبحانه {وما قتلوه وما صلبوه} إخبار عن حقيقة حاله أنه عند اللَّه سبحانه حي مرزوق يوافق ذلك قوله في موضع {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللّه أمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (3: 169)" (المجالس المؤيدية ص 79 من تاريخ الأمجاد في الإسلام د. عبد الرحمن بدوي طبعة ثانية سنة 1993م ص 107، 108)(361).
ج ـ لو لم يشأ اللَّه موت السيد المسيح ما كان لا اليهود ولا الرومان يقدرون أن يقتلوه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كما قال مُعلمنا بطرس الرسول لليهود: "هذا أخذتُموه مُسلَّمًا بمشورَةِ اللَّه المحتومَةِ وعِلْمِهِ السّابق" (أع 2: 23) ويقول د. ألدر "هناك معنى آخَر، وهو أنه ليس اليهود ولا الرومان هم الذين صلبوا المسيح، ففي أثناء محاكمة المسيح أمام بيلاطس "أجاب يسوع لم يكُن لك عليّ سُلطانٌ البتَّة، لو لم تكُن قد أُعطِيتَ من فوق" (يو 19: 11) إن اليهود اعتقدوا أنهم قتلوا المسيح، على الرغم من أنهم لم يقتلوه بالتأكيد، ففي الحقيقة أنهم لا يستطيعوا أن يقتلوا المسيح، ولكن اللَّه فقط يستطيع ذلك، وهذا نجد ما يشبهه في سورة 8: 17 عندما فرح المسلمون بانتصارهم في موقعة بدر، فذكَّرهم (اللَّه) بأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيء بنفسه {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولَـكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ وما رَمَيْتَ إِذ رَمَيْتَ ولـكنَّ اللّهَ رَمَى} الأنفال 17"(362).
د ـ يجب أن ننوه إلى نقطة هامة هنا قد تغيب عن الكثيرين وهي أن القرآن لم يهتم بذكر الحقيقة التاريخية كما حدثت من حيث الزمان والمكان، وإنما كان يهتم بالموعظة أكثر من الحقيقة، ولذلك اعتمد على معتقدات الغرب حينذاك حتى لو كانت مضادة للحقيقة، وهذا ما أوضحه باستفاضة د. محمد أحمد خلف اللَّه وكان نائبًا لحزب التجمُّـع ورئيس تحريـر مجلة اليقظة وله مؤلفات عديدة فيقول: "القرآن يجري في فنه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيل لا على ما هو الحقيقة العقلية ولا ما هو الواقع العملي" (الفن القصصي في القرآن الكريم طبعة رابعة ص 57)(363).
كما يقول أيضًا د. محمد خلف اللَّه "إن ما بالقصص القرآني من مسائل تاريخية ليست إلاَّ الصور الذهنية لما يعرفه المعاصرون للنبي من التاريخ، وما يعرفه هؤلاء لا يلزم أن يكون الحق والواقع، كما لا يلزم القرآن أن يصحح هذه المسائل أو يردها إلى الحق والواقع، لأن القرآن الكريم، كان يجيء في بيانه المعجز على ما يعتقد العرب، وتعتقد البيئة ويعتقد المخاطبون" (الفن القصصي في القرآن الكريم طبعة رابعة ص 254)(364).
وقال ابن خلدون: "إن أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى الذين كانوا بين العرب كانوا بادية جهلاء لا يعرفون من الحقائق الدينية إلاَّ ما تعرفه العامة منهم... فلمَّا أسلموا بقوا على ما كانوا عليه... فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم" (قراءات في الفلسفة د. علي النشار ص 26)(365).
هـ ـ إن كان الإخوة المسلمون يعتقدون أن السيد المسيح مجرد نبي فلماذا يستبعدون قتله، بينما يعترفون أن اليهود كثيرًا ما قتلوا أنبياءهم "وقتلهم الأنبياء بغير حق" (آل عمران 181) وقال البيضاوي في تفسير آية 87 من سورة البقرة: "قتلوا زكريا ويحيى ومحمد سمُّوا له الشاه"(366) ويقول يسى منصور: "فماذا يعتبر الأخ المسلم موت نبيه محمد مسمومًا بيد امرأة يهودية؟ أكان ذلك شرفًا أم عارًا"(367).
_____
(356) أورده د. فريز صموئيل في كتابه قبر المسيح في كشمير ص 139، 140.
(357) المرجع السابق ص 141.
(358) المرجع السابق ص 158.
(359) مذكرة خاصة لطلبة الإكليريكيات اللاهوتية عن الصلب والفداء ص 37.
(360) أورده د فريز صموئيل في كتابه قبر المسيح في كشمير ص 157، 158.
(361) المرجع السابق ص 157.
(362) أورده د فريز صموئيل في كتابه قبر المسيح في كشمير ص 158.
(363) المرجع السابق ص 153.
(364) المرجع السابق ص 153.
(365) أورده القس عبد المسيح بسيط في كتاب هل صُلِب حقًا المسيح وقام؟ ص 19.
(366) أورده الشماس يسى منصور في كتابه الصليب في جميع الأديان طبعة 1976م ص 90.
(367) المرجع السابق ص 91.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/cross/look-alike-verse-explanation.html
تقصير الرابط:
tak.la/ayzzn39