عُقِد مجمع تريدنت سنة 1545م-1563م في عهد البابا بولس الثالث رقم (219؟ (220)) [1534-1549] وأمتد إلى البابا يوليوس رقم (220)، والبابا مرتيوس الثاني رقم (221) والبابا بولس الرابع رقم (222) والبابا بيوس الرابع (223) [1556-1565]، وتريدنت مدينة صغيرة في شمال إيطاليا، وبسبب الأوبئة ولأسباب أخرى تعطل عمل المجمع فامتدت الجلسات الثلاث نحو 18 عامًا الأولى [1545-1547]، والثانية [1551-1552]، والثالثة من [1561-1563]
لقد مثَلت الحركة البروتستانتية بقيادة لوثر وأعوانه ضربة قاسية لكنيسة روما وللبابوية لذلك طالب بعض الكاثوليك وعلى رأسهم الإمبراطور كارل الخامس بعقد مجمع عام بهدف الإصلاح الكنسي، ولكن البابا اكليمنس السابع رقم (218) [1523-1534] أخذ ينتحل الأعذار خوفًا من أن المجمع يحد سلطته البابوية. أما البابا بولس الثالث خليفته ففكر في عقد المجمع العام تحت سيطرته ليضرب به الحركة البروتستانتية ولذلك وافق على عقد المجمع.
وفي سنة 1545م وبعد مفاوضات طويلة تم تعيّين مكان المجمع في مدينة تريدنت على الحدود بين إيطاليا وجرمانيا، وعند افتتاح المجمع كان السؤال المطروح: هل يناقش المجمع العقائد أو يناقش الإصلاح الكنسي..؟ لقد أصر قُصَّاد البابا على مناقشة العقائد حسب وصية البابا بولس الثالث، بينما أصرَّ سفراء الإمبراطور على مناقشة الإصلاح الكنسي، وأخيرًا استقرت الأوضاع على مناقشة كلتا القضيتين.
وناقش المجمع الأوضاع السائدة بعد الانشقاق البروتستانتي، وتم مناقشة السبل التي تضمن عدم تكرار هذا الانشقاق في المستقبل، وعدم تكرار ثورات لوثر وزونكلي وكالفن، وبحثوا السبل التي تؤدى إلى قبول الديانة التقليدية على نطاق أوسع. لذلك أكد المجمع على ضرورة توافر خدام الدين المتعلمين، والاهتمام بمدارس وكليات اللاهوت.
وفي الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه الأسقف "رينولد بولد" الإنجليزي حَمَّل الإكليروس نتيجة ما يحدث من انحرافات فقال "قبل محكمة رحمة الله، نحن الرعاة يجب أن نجعل أنفسنا مسئولين عن كل الشرور التي تثقل الآن قطيع المسيح. خطايا الكل يجب أن نحملها على عاتقنا، ليس كرمًا منا بل هو العدل، لأن الحقيقة هي أننا نحن السبب في جزء كبير من هذه الشرور، ولذلك يجب أن نلتمس الرحمة الإلهية بواسطة يسوع المسيح" (108)
وأكد هذا المجمع على أهمية الأسرار السبعة، وأعمال التوبة، وسر الاستحالة في الأفخارستيا Transubstantiation، ومناولة العلمانيين الجسد دون الدم، وحظر زواج الإكليروس، والمطهر، ووضع التقليد الكنسي في درجة مساوية للكتاب المقدس وأقرَّ المجمع ترجمة الكتاب المقدس اللاتينية، ومنع اقتناء أو قراءة أي ترجمة أخرى للكتاب المقدس ووضع قصاصًا للمخالفين، كما أصدر المجمع دليلًا بالكتب الممنوع نشرها أو حيازتها، وأحيا محاكم التفتيش لفحص الهراطقة والقبض عليهم ومحاكمتهم.
وناقش المجمع الفكر البروتستانتي في التبرير، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقال أن التبرير يتم بالنعمة الإلهية التي تنبه الإيمان في الإنسان، وأما الإنسان من جهته فإنه حر أن يساعد هذه النعمة بقواته الخاصة. لذلك ثبَّت المجمع وجوب الأعمال الصالحة لأجل الخلاص " (109) كما ناقش المجمع باستفاضة الفكر البروتستانتي عن النعمة والأعمال، فبينما ركز البروتستانت على عمل النعمة الإلهية وإهمال الجانب الإنساني في الخلاص أوضح مجمع تريدنت ضرورة الأعمال الصالحة كبرهان على عمل النعمة.
وبينما كان المجمع يعقد جلساته الأولى تمكن الإمبراطور كارل الخامس من إحراز الغلبة في الحروب على الأمراء البروتستانت، فطلب من المجمع مناقشة الإصلاحات الكنسية، ولكن البابا بولس الثالث عندما علم بدء المناقشات في هذا الموضوع طلب من المجمع أن ينتقل إلى "بولوينا" بحجة ظهور وباء في تريدنت، وفي سنة 1547 م. جاء الأساقفة الموالين للبابا إلى بولينا بينما ظل الأساقفة المتمسكون برأي الإمبراطور في تريدنت، ورغم أن المجمع عقد في بولينا عدة جلسات إلاَّ أنه لم يتخذ أية قرارات فقام البابا بولس بتأجيل جلساته.
وفي سنة 1551م دعى البابا يوليوس الثالث رقم (220 [1550-1555] المجمع للانعقاد للمرة الثانية في تريدنت تحت إلحاح الإمبراطور الذي طالب بعودة المجمع للانعقاد بحضور ممثلين من البروتستانت... انعقد المجمع في تريدنت وتابع الأعمال السابقة، وحضر للمجمع مفوضون من البروتستانت فلم يسمح المجمع لهم بعرض تعاليمهم، كما عاملهم قُصَّاد البابا وبعض الأساقفة كهراطقة مما أغضب جميع البروتستانت، وفي أثناء هذه الجلسات الثانية بدأ موريس السكسوني بالحرب ضد الإمبراطور، وبدأ الخطر يُهدّد المجمع لذلك دعى البابا يوليوس الثالث إلى تأجيل أعمال المجمع سنتين.
وفي سنة 1562 م. وتحت إلحاح الإمبراطور فرديناند والملوك الآخرين دعى البابا بيوس الرابع رقم (223) [1559-1565] المجمع للانعقاد للمرة الثالثة في تريدنت لوقف الاضطرابات الدينية بين الكاثوليك، ولكي يعرب البابا بيوس عن نواياه السليمة دعى البروتستانت لحضور الجلسات الثالثة للمجمع التريدنتيني ولكنهم رفضوا الدعوة، وطلب إمبراطور جرمانيا وملكي أسبانيا وفرنسا عن طريق سفرائهم وأساقفتهم مناقشة الإصلاح الكنسي، والبلاط البابوي، والحد من السلطة البابوية، ولكن البابا بيوس الرابع استطاع عن طريق السفارات والمفاوضات أن يهدئ الأمور مقابل وعوده بالقيام بالإصلاحات الممكنة، وسمح البابا للمجمع أن يناقش أمور الإصلاح بشرط عدم إنقاص شيء من سلطته البابوية.
قرَّر المجمع إصلاح كتاب الخدمة وجعله في شكل واحد لتحسين الخدمة الإلهية وتتميم الأسرار بصورة حسنة ومع هذا فإن هذا العمل لم يتم، وقرر المجمع عدم السماح للكهنة المتجولين بإقامة قداسات في البيوت، ولا يعلن أحد من الكهنة عن أيقونة أنها عجائبية إلاَّ بعد إذن الأسقف، وأن لا يجبر الأساقفة الكهنة على إقامة القداسات، وأيضًا قرَّر المجمع عدم السماح بسيامة أسقف إلاَّ إذا كان حاصلًا على الدكتوراه أو الماجستير في علم اللاهوت من إحدى الجامعات، وأن يلتزم الكهنة والأساقفة بالإقامة في أبروشياتهم ولا يتركونها إلاَّ بترخيص ولعذر قهري ولا سيما أن كثير من الكرادلة والأساقفة كانوا يتركون ابروشياتهم ويعيشون في روما بالقرب من البابا، ولأنه كان من الممكن أن يكون تحت سيطرة الكردينال عشرة ابروشيات في وقت واحد لذلك طالب المجمع البابا بالحد من هذه الظاهرة الخطيرة المبنية على السيمونية. كما تطرق المجمع إلى آداب الإكليروس ووضع القصاصات المناسبة لمن يعيش من الإكليروس مع امرأة غير شرعية.
وفي سنة 1563م أنهى المجمع أعماله، وقد كان له تأثيرًا كبيرًا في الإصلاح الكنسي، وبالتالي نجح في إيقاف الاضطرابات الكاثوليكية من ناحية وانتشار البروتستانتية من جهة أخرى.
أما النظرة الكاثوليكية المتطوّرة اليوم فإنها تنظر إلى الخلاف البروتستانتي الكاثوليكي على إنه نتج بسبب تأكيد كل طرف على جانب معين من قضية الإيمان والأعمال، فيقول الأب سليم بسترس البولسي:
" يُعتَبر اليوم النقاش الذي جرى بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر أمرًا عفاه الزمن. ويمكنا اليوم أن نرى بوضوح كيف كان كل فريق يؤكد بشدة ناحية معينة من العقيدة الواحدة، وبلغت حدة النقاش بالبعض إلى مواقف متصلبة منافية لتعليم كنيستهم. يذكر على سبيل المثال قول أحد أتباع لوثر الغيورين {نيكولافون امسدروف} إن الأعمال الصالحة مُضرَّة للخلاص وللحياة الأبدية. أن نقطة انطلاق لوثر هي مجانية الخلاص إلًا أن قولًا كهذا يناقض آراءه التي نجد فيها اعتدالًا، فمع تشديده على مجانية الخلاص وأولية الإيمان بالنسبة إلى الأعمال يعتبر في تقديمه للرسالة إلى الرومانيين في طبعته الألمانية للكتاب المقدس يقول أن {الإيمان الحي والقوى لا يسعه إلاَّ أن ينتج عنه باستمرار عمل الخير}..
من جهة أخرى يجب قراءة تأكيدات المجمع التريدنتيني للأعمال الصالحة على ضوء ما يقوله في نهاية الفصل السادس عشر في أوَّلية نعمة الله... أن محبة الله للبشر عظيمة إلى حد أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم... نخلص إلى القول أن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن لا بُد منها للخلاص ذلك أنها الدليل في آن واحد على صحة إيمانه وعلى نعمة الله التي تعمل فيه " (110)
_____
(108) تاريخ الكنيسة ج4 جون لوريمر ص327.
(109) تاريخ الكنيسة المسيحية - المطران الكسندروس جحا مطران حمص ص 639.
(110) اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر ج2 ص166.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/catholic/council-trent-1545.html
تقصير الرابط:
tak.la/a4g99v6