س608: كيف يُبدّد وكيل الظلم ثروة سيده (لو 16: 5-7)، ثم يأتي السيد فيمدحه على حكمته (لو 16: 8)؟ ولماذا يدعو السيد المسيح المال الذي بين أيدينا، وقد اكتسبناه بطريقة شرعية "بِمَالِ الظُّلْمِ"؟ (لو 16: 9)؟
ج: 1- كيف يبدّد وكيل الظلم ثروة سيده (لو 16: 5-7)، ثم يأتي السيد فيمدحه على حكمته (لو 16: 8)..؟ لا يوجد مّثل من أمثال السيد المسيح أثار مجادلات مثل هذا المَثل الذي لوكيل الظلمة، وهنا يجب التركيز على بعض النقاط:
أ– في فهم الأمثال وتفسيرها يجب أن نركز على نقطة أو نقاط التشابه، لأن المَثل لا يتطابق مع الواقع بنسبة 100%، بل يبرز لنا نقاط الشبه وهكذا في التشبيهات، فالمشبَّه به لا يتطابق مع المشبَّه تطابق تام، فمثلًا لو شبهنا شخص بالأسد وآخر بالثعلب، فلا نقصد أن الأول صار أسدًا ولا أن الثاني صار ثعلبًا، إنما نقصد أن نبرز شجاعة وجراءة وإقدام الأول، وخُبث ومكر ودهاء الآخر. فعندما يُقدِّم السيد المسيح مَثل فنحن لا نتوقع أنه يتطابق مع الواقع تمامًا في جميع الجوانب، ولكن نركز على نقاط التشابه، ونقطة التشابه هنا هو اهتمام الرجل بتأمين مستقبله، ولكن هل تصرفه كان صحيحًا أم خاطئًا؟ فهذا ما لم يتعرض له المَثل، فإن كان وكيل الظُلمة قد بدّد ثروة سيده في المرة الأولى أو الثانية، فليس هناك من يبرئه، ولا سيما أن السيد المسيح الحق كله.
ويقول "البابا شنوده الثالث": "هناك نقطة هامة جدًا، نقولها في هذا المَثل وأمثاله، وهي:
هناك نقطة تشبيه محددة، لا نخرج عنها إلى التعميم
فمثلًا أن امتدحنا الأسد لا نمتدح فيه الوحشية والافتراس، إنما نمتدح القوة والشجاعة. وإذا شبهنا إنسانًا بالأسد، فلا نقصد أنه حيوان، ومن ذوات الأربع، إنما نمتدحه على شجاعته وقوته. كذلك في مَثل وكيل الظلم، المديح على نقطة واحدة محددة وهيَ الحكمة في الاستعداد للمستقبل وليس كل صفاته الأخرى.
وهنا نُقدِّم مثالًا آخر، تتضح منه هذه النقطة بقوة:
الحيَّة التي هيَ سبب كوارثنا كلها، بإسقاط أبوينا الأولين، وجد الرب فيها صفة جميلة يمكننا التشبه بها فقال: "فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ" (مت 10: 16).. فهل نتشبه بالحية في كل شيء وهيَ مثال الخبث والدهاء والشر؟! أم أنه توجد نقطة واحدة محددة، وهيَ الحكمة، امتدحها الرب، وأصبح التشبيه والاقتداء محصورًا في حدودها، هكذا وكيل الظلمة في حكمته" (351).
ب- لم يمدح السيد وكيل الظلم على كافة تصرفاته، إنما مدحه على الحكمة التي قادته لتأمين مستقبله: "فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ" ولم يتعرض المَثل للطريقة التي تصرف بها سواء كانت صحيحة أو خاطئة. مدح السيد طريقة تفكيره في الخلاص من الورطة التي وقع فيها، ولم يمتدح تصرفه الخاطئ في النصب والاحتيال، فالغاية النبيلة لا تبرر الوسيلة الفاسدة. ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي: "وقد استحق هذا الوكيل الثناء على تصرُّفه هذا، لا لأنه بدَّد أموال سيده، أو لأنه خدعه فيما له من استحقاق عند مدينيه، وإنما لأنه كان ذا فطنة في تأمين مستقبله، لا فطنة أبناء السماء التي تنطوي على الأمانة الكاملة والصدق الكامل، وإنما فطنة أبناء الأرض الذين يفكرون تفكيرًا دنيويًا فيما يلجأون إليه من أساليب وسبل لاجتناب انقطاع سبل العيش أمامهم، في حين أن أبناء السماء حتى وهم على الأرض لا يمكن ولا ينبغي أن يلجأون إلى مثل هذه الأساليب أو السبل، لأن أساليبهم دائمًا روحية وسبلهم دائمًا سماوية" (352).
جـ- تظهر فطنة وكيل الظلمة في قوله: "قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ" (لو 16: 4) ويقول "القمص أنجليوس جرجس": "قَدْ عَلِمْتُ"، في الأصل اليوناني تأتي بمعنى "اكتشاف عجيب"، فالأبدية هيَ اكتشاف رائع وعجيب بالنسبة لهؤلاء الذين استطاعوا أن يروا الأبدية، فتكون بالنسبة لهم اكتشاف لوجوده وهدف لحياتهم الضائعة، بل أنها حل لكل مشاكل الإنسان... الذي يُعطي المساكين تكون الأبدية هيَ هدفه، والمتألم والمريض في الأبدية يجد الحل لآلامه، والذي يحب الآخرين في الأبدية خلود لمحبته، فالأبدية اشتياق للحياة المستقرة والمستقبل المضمون للإنسان" (353).
د– هناك احتمال أن هذا الوكيل عندما خفض مديونيات المديونين فإنه أعاد الحق إلى نصابه، لأنه هو الذي سبق وضاعف المديونية سواء بعلم سيده أو بدون علمه، فهذا الرجل عندما خفَّض المديونيات فإنه حذف ما كان مضافًا عليهم بالظلم.
هـ- ليس بالضرورة أن نفترض أن هذا الوكيل خائن لسيده وسعى نحو تبديد أموال سيده، لأن هناك احتمال وهو أن ما خفَّضه من مديونيات سيده، من الجائز أن يكون قد قام هو بتسديده من ماله الخاص، حتى لا يفقد سيده شيئًا من أمواله، وفي نفس الوقت يكون قد كسب ود ومحبة هؤلاء المديونين، فمتى سلَّم وكالته يجد من يستضيفه ويكرم وفادته.
على كلٍ فإن هذا الوكيل كان هدفه في تأمين مستقبله كان صحيحًا، بينما وسيلته في تحقيق هذا الهدف كانت خاطئة، وما ركز عليه المَثل هو هدف الرجل وليست الوسيلة التي حقَّق بها هذا الهدف، فالهدف من المَثل أن يركز الإنسان على مستقبله بعد أن يرحل من هذه الحياة، وليس هناك إنسان عاقل يعتقد أن السيد المسيح يشجع على عدم الأمانة. ويقول "القس الدكتور ماك وودورد": "إن جوهر هذا المَثل هو أن الوكيل عاش في مجالين. في المجال الأول كان لديه سيطرة على ثروة وأموال سيده، ولكنه علم أنه قريبًا سوف يعيش في مجال آخر حيث سيفقد هذه السيطرة. فبينما كان لا يزال في المجال الأول، استخدم سيطرته على تلك الثروة، بطريقة صنع بها أصدقاء يستقبلونه عندما يكون قد وصل إلى المجال الثاني. تمامًا كما استخدم وكيل الظلم ثروته التي لم تكن ملكه فصنع بهذه الطريقة أصدقاء كُثَّر في المجال الثاني. عليك أنت أن تستخدم ما لديك بطريقة تسمح لك عندما تصل إلى المجال الثاني أي الأبدية. فعندما " تُطرد" أو "تموت" سيكون لديك أصدقاء ينتظرونك ليرحبوا بك في منازلهم الأبدية أو أماكن سكنهم.
" رَابحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ" (أم 11: 30) لربما ما يقوله هذا المَثل... بكلمات أخرى يقول هذا المَثل بأنه لا يمكنك أن تأخذ ثروتك معك، ولكن بامكانك بحسب هذا المَثل، أن توظف أموالك في السماء" (354).
ويقول "القس سمعان كلهون": "الذي مدح هذا الوكيل ليس المسيح بل سيده، ولئلا يستنتج أحد أن وكيل الظلم قد ذُكِر ليكون مثالًا لنا في حياتنا باستعمال الأموال الأرضية، كما هو لنا في ذكائه وكدّه، استدرك المسيح ذلك حالًا في ملاحظاته على المَثل بقوله: "اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ". أي استعملوا غنى هذا العالم سواء كان قليلًا أو كثيرًا بحيث لا يكون لدينونتكم في يوم الحساب. لكن شاهدًا لكم بأنكم استعملتموه بالحق... فباستعمال هذه الأموال يقدر الإنسان أن يُظهِر أمانته وأهليته لوكالة أعظم. وتدعى الأشياء الأرضية المسلّمة لنا الآن "القليل" بالمقارنة مع العطايا الروحية والنعم الإلهيَّة المعبَّر عنها "بالكثير".." (355).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- لماذا يدعو السيد المسيح المال الذي بين أيدينا، وقد اكتسبناه بطريقة شرعية " بِمَالِ الظُّلْمِ"؟ (لو 16: 9)..؟ ليس المقصود بمال الظُلم المال الذي جاء عن طريق الاختلاس أو الغش أو الخداع، أو الزنا، فمكتوب: "لأ تُدْخِلْ أُجْرَةَ زَانِيَةٍ... إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ" (تث 23: 18)، وقال المرنم: "زيت الخاطئ لا يدهن رأسي" (مز 140: 5 سبعينية) ومنعت قوانين الآباء الرسل استخدام الأموال المشكوك فيها في الخدمات الكنسية. ومن مبادئ الحياة الروحية أن الإنسان لو ارتكب إحدى هذه الخطايا، فعليه أن يتوب ويرد المال المسلوب، فهكذا فعل زكا، بل أنه ردَّ أربعة أضعاف، فلم يقصد إذًا السيد المسيح أن المال الذي بين أيدينا "مال ظلم" لأنه ناتج عن السرقة والاختلاس، ولكن طبيعة المال أنه لا يستقر في يد واحدة، بل يعبر سريعًا من يد إلى أخرى، ومن الوارد جدًا أن إحدى الأيدي التي مر بها أساءت استخدامه في ظلم الناس واستغلالهم أو أُستخدم في الربا الفاحش أو تجارة المخدرات، أو على الأقل لم يُخصَّص عشره للفقراء والمحتاجين فانطبق عليه قول الكتاب أنه مال مسلوب: "أَيَسْلُبُ الإِنْسَانُ الله. فَإِنَّكُمْ سَلَبْتُمُونِي. فَقُلْتُمْ بِمَ سَلَبْنَاكَ. فِي الْعُشُورِ وَالتَّقْدِمَةِ" (ملا 3: 8). ومال الظلم له أجنحة، فهو دائم الطيران سريع الزوال لا يستقر في خزانة الظالم، وكما قيل: "إن مالًا تأتي به الرياح، تبدده الزوابع".
_____
(351) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس، ص71، 72.
(352) الإنجيل بحسب القديس لوقا - ترجمة لجنة قداسة البابا كيرلس السادس، ص370.
(353) يوميات مع كلمة الحياة - إنجيل لوقا، ص360.
(354) الخدمة العربية للكرازة بالإنجيل - في ظلال الكلمة كتيب رقم 11 - دراسة لإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا ص43، 44.
(355) اتفاق البشيرين ص386، 387.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/608.html
تقصير الرابط:
tak.la/ybvy7yw