س580: ما معنى: "زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا" (لو 7: 32)؟ ولماذا دعى الفريسي يسوع إلى بيته (لو 7: 36)؟ وهل كان الفريسي محقًّا في تفكيره بأن لو كان يسوع نبيًا لعلم أن هذه المرأة خاطئة ولم يكن يدعها تلمسه (لو 7: 39)؟
ج: 1- ما معنى: "زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا" (لو 7: 32)..؟ أرسل يوحنا المعمدان للسيد المسيح يسألانه: "أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ" (لو 7: 20)، وأبصر التلميذان أعمال المسيح العجيبة التي تؤكد أنه هو هو المسيا الآتي إلى العالم، وعاد التلميذان إلى معلمهما، ثم امتدح السيد المسيح يوحنا المعمدان مع أن الكثيرين رفضوا بشارته، فشبه السيد المسيح ذلك الجيل الذي عاصر بشارتي يوحنا ويسوع بأنهم مثل الأولاد الذين يلهون في السوق، مع أن السوق ليس مكانًا للهو بل للتجارة وتبادل المنافع، وهؤلاء الأولاد في لهوهم كانوا يقسمون أنفسهم فريقين، فيقوم أحد الفريقين بتمثل مشهد والفريق الآخر يتجاوب معه ويحاكيه، ولكن لو كان الفريق الثاني سلبي ولا يبالي بشيء فلا تكتمل اللعبة. فمثَّل الفريق الأول مشهد الفرح وزمروا وغنوا أغاني الفرح منتظرين من الفريق الثاني أن يعلنوا مشاعر الفرح ويحاكونهم فيسرون ويرقصون، ولكنهم إلتزموا الصمت، فقام الفريق الأول بتمثيل مشهد الحزن والبكاء منتظرين من الفريق الثاني محاكاتهم ولكنهم أيضًا يلتزمون الصمت. وإن كان مشهد الفرح الأول يشير لبشارة العهد الجديد المملؤة فرحًا، فإن مشهد الحزن والألم يشير لبشارة يوحنا المعمدان التي دعت للتوبة والندم، وبلا شك أن المقصود من هذا المَثَل اليهود والفريسيين المتزمتين الذي رفضوا كرازة يوحنا المعمدان وبشارة السيد المسيح. اتهموا يوحنا المعمدان قائلين أنه: "لاَ يَأْكُلُ خُبْزًا وَلاَ يَشْرَبُ خَمْرًا فَتَقُولُونَ بِهِ شَيْطَانٌ" (لو 7: 33) وعن السيد المسيح قالوا: "هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهاَ" (لو 7: 34، 35). ومثل هؤلاء الرافضين انطبقت عليهم نبوءة إشعياء النبي: "وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْرًا وَلِلْخَيْرِ شَرًّا الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُورًا وَالنُّورَ ظَلاَمًا الْجَاعِلِينَ الْمُرَّ حُلْوًا وَالْحُلْوَ مُرًّا" (إش 5: 20).
2- لماذا دعى الفريسي يسوع إلى بيته (لو 7: 36)..؟ عمَّت سمعة يسوع المسيح الآفاق في كفرناحوم وكل الجليل واليهودية وما بينهما، وصارت سيرته وأعماله وتعاليمه العجيبة موضع حديث كل بيت، وعلى كل لسان، عجائبه ومعجزاته والقوات التي يصنعها، مدى محبته للبشر وتعطفه وحنوه، وإذ كان الفريسيون يميلون للكبرياء، حتى أنهم أحيانًا يرتدون رداء الاتضاع لكي يخفوا كبريائهم، فيبدو أن هذا الفريسي في دعوته للسيد المسيح لم يكن حسن النية، والدليل على هذا أنه أسرع بإدانة يسوع في فكره لأنه سمح للمرأة الخاطئة أن تلمسه. إذًا هناك عدة احتمالات للسبب الذي دعى الفريسي إلى دعوة يسوع إلى بيته:
أ– لم يكن جميع الفريسيين أشرارًا بلا استثناء، بل كان بعضهم طيب القلب. إذًا هناك احتمال أن يكون هذا الرجل حسن النية، أحب يسوع وأراد أن يكرم وفادته، ولو أن هذا الاحتمال ضعيف جدًا.
ب- هناك احتمال أن هذا الرجل قد دعى يسوع ليراقبه، ويتمنى أن يصطاده بكلمة أو تصرف يرى أنه خطأ، فيدينه ويشنع به أمام الشعب...
جـ- ربما أراد هذا الفريسي أن يكتسب مديح الآخرين، ويرغب في الشهرة، فدعا يسوع رجل الفضيلة والمعجزات إلى بيته، حتى إذا تحدَّث الناس عن يسوع وعجائبه يذكرون أيضًا سمعان الفريسي الذي دعاه إلى وليمة ضخمة في بيته، وهذا هو الاحتمال الأرجح.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل كان الفريسي مُحقًّا في تفكيره بأن لو كان يسوع نبيًا لعلم أن هذه المرأة خاطئة ولم يكن يدعها تلمسه (لو 7: 39)..؟ كان سمعان الفريسي يعرف هذه المرأة الخاطئة لأن سيرتها عُرِفت في المدينة ورائحة زناها فاحت، فكم كان اشمئزاز هذا الفريسي من دخول هذه الزانية إلى بيته، واشمئز أكثر وأكثر عندما اقتربت من يسوع ولمست قدميه، وشعر بالحرج لأنه لم يجرؤ على طردها، لئلا يعتبر هذا إهانة لضيف الليلة الرب يسوع الذي قَبَل منها ما تفعله، ولذلك تحرك داخله فكر الدينونة والشك: "تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلًا لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ. إِنَّهَا خَاطِئَةٌ" (لو 7: 39)، فمن صفات النبي أن عينيه مفتوحتان يعرف ما أُخفي عن الآخرين، فما بالك بأمر يعرفه الكثيرون وأُخفي عن ذلك الرجل الذين يقولون أنه نبي. إنه ليس نبيًا لأنه لم يعرف أن هذه المرأة خاطئة، وإن كان يعرف حقيقتها وتركها تلمسه فهو لا يستحق أن يكون نبيًا... لقد رأى سمعان خطية المرأة ولم يرى خطيته، ولم يشعر بحاجته للمغفرة ولا بحاجته للمُخلص، فقد وضع في نفسه أنه إنسان فاضل مُلتزم مقبول لدى اللَّه والناس يمتدحونه، بينما شعرت هذه المرأة بوطأة خطاياها وعار زناها وثقل أثمها، تجر ورائها ماضٍ طويل مُشين مُلطخ بالرذائل، وبالتالي شعرت باحتياجها الشديد للمُخلص لينتشلها من هذه الهوة السحيقة... حسب هذا الفريسي نفسه أفضل من هذه المرأة الخاطئة فتمنى لو أنه يقدر أن يُلقي بها بعيدًا عن بيته ويطردها شر طردة. لم يبصر دموعها ولا ندمها وحسرتها ولا آلامها وتوجعاتها، وما أشبه قصة سمعان الفريسي والمرأة الخاطئة بقصة الفريسي والعشار اللذان صعدا إلى الهيكل ليصليا وعاد العشار مُبرَّرًا دون ذاك (لو 18: 9-14). كانت خطية الفريسي الكبرياء تمنعه من أن يرى عيوبه وخطاياه، وإن كانت خطية المرأة هيَ خطية الجسد فإن خطية سمعان هيَ خطية الروح وكليهما يذهب بصاحبه إلى جهنم النار، غير أن هذه المرأة أحسنت التصرف دون الفريسي الذي دعاه.
وإن كانت المراحم الإلهيَّة تداركت هذه المرأة الخاطئة، فإنها لم تهمل ذاك الفريسي الذي فتح بيته للمُخلص سواء عن قصد حسن أو قصد ردئ، فأوضح السيد المسيح للفريسي ما غمض عليه. كان ذلك الفريسي يرى أن يسوع ليس نبيًا ولا يستحق أن يكون نبي، أما السيد المسيح فكشف لسمعان عن أفكاره التي لم ينطق بها... أليس هذا دليل كافٍ بأن يسوع أكثر من نبي!.! إنه رب الأنبياء جميعًا، وطرح عليه مَثَل المديونين وترك له الفرصة ليحكم على نفسه، أجلى أمامه الحقيقة لتبصرها عيناه. لم يرد عليه بقسوة وجفاء إنما أفهمه الحقيقة بهدوء ووقار قاصدًا أن ينقذه من هوة كبريائه. ويقول "مارأفرام السرياني": "يشبه قول ربنا بسهمًا وُضِع الصلح على رأسه مشحوذًا بالمحبة لتهدئة انفعالات الجسد. رماه في وقته على من كان مخاصمًا، فانقلب الخصام إلى سلام وأُلفة، وما أن قال الرب قوله المتواضع: "يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ" حتى أجاب... "تكلم يا رب". اخترق القول الحلو عقلًا مُرًّا، فأثمر ثمرًا طيبًا، ومن كان يحط من قدره في الخفية مدحه علانية، المتواضع بلسان عذب يُخضِع الأعداء.." (198).
ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "مهَّد المسيح لكلامه بقوله له: "يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ " وكان هذا قبل أن يبدي سمعان كلمة يعبر بها عما يختلج في نفسه، فبرهن المسيح بهذا على أنه نبي وأعظم من نبي، فكان أكثر مما ظن سمعان، وافتكر، لأن المسيح لم يعرف تاريخ المرأة الخاطئة فقط، لكنه عرف ما كان يدور بفكر سمعان نفسه، وبرهن على أنه نبي ووديع، لأن كلماته لينة بشدَّتها، جارحة بعذوبتها، لطيفة بالحكمة المتدفقة منها. إذ وجه له الخطاب ذاكرًا اسمه، مُفرغًا خطابه في صيغة سؤال ليربطه بخيوط يحبكها هو لنفسه، فهيأ له الفرصة ليحكم على نفسه بنفسه" (199).
ويقول "دكتور وليم باركلي": "قضت العادة والتقاليد أن يعمل المعلم اليهودي ثلاثة أمور لطيفة: يضع يده على كتف الضيف ويُقبّله قبلة السلام، إذ كانت القبلة هيَ علامة الاحترام التي لا تنقطع من بيت المُعلِّم الممتاز. ولما كانت الطرق غير معبَّده كثيرة الأتربة والأحذية نعالًا تثبَّت في القدم. كان على صاحب البيت أن يُقدم للضيف ماءً باردًا يصبه على قدميه للنظافة والراحة من عناء السير، ثم وجب على المضيف أيضًا أن يسكب شيئًا من العطور والطيب على رأس الضيف، أو يطلقون رائحة البخور نفاذة قوية تتردد في جنبات البيت. ولم يعمل المضيف شيئًا واحدًا من هذه الواجبات مع يسوع"(200).. تأمل في معاملات سمعان مع السيد المسيح ومعاملات السيد المسيح مع سمعان الفريسي.
_____
(198) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص216.
(199) شرح بشارة لوقا، ص180.
(200) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص124.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/580.html
تقصير الرابط:
tak.la/gf8v66k