س422: هل عندما قال السيد المسيح: "خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي" كان يقصد أنه ذكرى لموته، بدليل قول السيد المسيح في إنجيل لوقا: "هذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي" (لو 22: 19) وأيضًا قول السيد المسيح على لسان بولس الرسول: "اصْنَعُوا هذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي" (1 كو 11: 25)، ومن الواضح أن الذكرى غير الحقيقة؟
ج: 1- كلمة " لِذِكْرِي" في الأصل اليوناني "أنامنيسيس" anamnesis/ἀνάμνησις/אנמנזה وتعني استحضار حدث تم أمام اللَّه في الماضي، وما زال فعله وأثره ممتدًا في الحاضر، فهيَ تعبّر عن عمل له طابع إلهي، مثلما بارك اللَّه آدم وحواء بعد خلقتهما: "وَقَالَ لَهُمْ أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ" (تك 1: 28)، فما زالت هذه البركة والعطية تسري في البشرية، فكلمة "أنامنيسيس" لا تعني تذكار عقلي لحدث مضى وولى وفات، إنما تعني عمل تم في الماضي وما زال فعله وأثره حاضرًا معنا، فهيَ ليست ذكرى لأمر غائب بل ذكرى حاضرة وفعَّالة، فلا يتذكر التلاميذ وخلفائهم ما فعله يسوع كأمر مضى وإنتهى بل كحقيقة حاضرة وفعَّالة.
ويقول "دكتور مجدي وهبه": "فإن كلمة " لِذِكْرِي " H ανάμνησιν ليس لها خاصية ذهنية عاطفية (أي التذكر الذهني لأمر نتطلع إليه غائبًا عنا) ولكن خاصية كيانية فعَّالة (أي إعادة تحقيق هذا الأمر وبصورة فعَّالة).. بل الأكثر من هذا أن الفعل "اِصْنَعُوا" جاء في اللغة اليونانية في صيغة الأمر المستمر المبني للمعلوم، والفعل بهذه الصياغة يعني استمرارية إتمام سرّ الإفخارستيا"(138). فالكلمة تحمل معنى الاستمرارية في الاتحاد بجسد الرب. وسبقت كلمة " لِذِكْرِي" عبارة " اصْنَعُوا هذَا" وهيَ تعبر عن الاستمرارية، وفي كل مرة نتمم هذا السرّ العظيم نتذكر موت الرب ونعترف بقيامته، فيصلي الأب الكاهن: "لأن كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذا الكأس تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكروني إلى أن آجئ" ويرد الشعب: "آمين آمين آمين، بموتك يا رب نبشر، وبقيامتك المقدَّسة وصعودك إلى السموات نعترف. نسبحك، نباركك، نشكرك يا رب، ونتضرع إليك يا إلهنا" (القداس الباسيلي).
2- الذكرى هنا ذكرى عينية، مثلما احتفظ موسى بالمن عينه في قسط المن: "وَقَالَ مُوسَى هذَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّبُّ. مِلْءُ الْعُمِرِ مِنْهُ يَكُونُ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ. لِكَيْ يَرَوْا الْخُبْزَ الَّذِي أَطْعَمْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّة" (خر 16: 32)، وسبق السيد المسيح وقال: "أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ. لأَنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ" (يو 6: 32، 33).
3- مهَّد السيد المسيح لحقيقة تقديم جسده ودمه أثناء حديثه مع اليهود والتلاميذ عن المن السماوي، وانتقاله للحديث عن جسده ودمه (يو 6: 32 - 69) وأكد على أهمية وضرورة التناول من جسده ودمه الكريمين، تارة بصورة إيجابية، مثل قوله: "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ... مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يو 6: 51، 54) (راجع يو 6: 32، 35، 41، 48، 55، 56، 58). وتارة بصورة سلبية، مثل قوله: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يو 6: 53) وتمسك السيد المسيح بحرفية كلامه، حتى أنه: "رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا" (يو 6: 66، 67)، وقال بولس الرسول: "إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِه" (1 كو 11: 27)، فكيف يُحسب مجرمًا من يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس بدون استحقاق لو لم يكونا جسد حقيقي ودم حقيقي ليسوع المسيح إلهنا؟!!، وهل لو كان الأمر مجرد ذكرى فهل يعد من يأكل ويشرب منهما بدون استحقاق يصير مجرمًا؟!!.
4- الوقت الذي قدَّم فيه السيد المسيح هذا السرّ العظيم كان وقتًا حرجًا للغاية -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- فلم يتبقَ سوى ساعات قليلة على الصلب، فالوقت لا يحتمل أن يتكلم فيه السيد المسيح بالألغاز.
5- هل الذي حوَّل آتون النار إلى ندى بارد، والذي حوَّل الماء إلى خمر ممتاز، والذي حوَّل الطين إلى عينين كاملتين، والذي يحوَّل الطعام والشراب داخلنا إلى جسد ودم، يعجز عن تحويل هذا الخبز وهذه الكأس إلى جسده ودمه لكيما يظل قائمًا معنا إلى الأبد، كوعده الصالح: "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر. آمِينَ" (مت 28: 20). يظل قائمًا في كنيسته حمل كأنه مذبوح في كل زمان وكل مكان ليس مجرد ذكرى وكأنه غائب عنا، وجاء في صلوات قسمة العذراء والملائكة والسمائيين: "هوذا كائن معنا على هذه المائدة اليوم عمانوئيل إلهنا، حمل اللَّه الذي يحمل خطية العالم كله... مقدَّسة ومملوءة مجدًا، هذه الذبيحة التي ذُبحت عن حياة العالم كله. آمين الليلويا. من أجل هذا صرخ مُخلصنا الصالح قائلًا: "أن جسدي هو مأكل حق ودمي هو مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يكون فيَّ وأنا أكون فيه".
6- قال بولس الرسول أن السيد المسيح سلَّمه هذا السرّ العظيم على أنه جسده ودمه: "لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزًا. وَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ خُذُوا كُلُوا هذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي" (1 كو 11: 23، 24) وقول السيد المسيح: "اصْنَعُوا هذَا" أي "هذا نفسه"، وليس مثل هذا، ويوضح القديس بولس المقصود بكلمة " لِذِكْرِي": "فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ (هذَا) الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِموْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ" (1 كو 11: 26) أي تذكرون فداء الرب لكم بدمه الذي ما زلنا نتناول منه لمغفرة الخطايا ولنوال الحياة الأبدية.
7- لعظم هذا السرّ ولأهميته القصوى نجد إلماحات الوحي الإلهي له، تارة من خلال النبوات، مثل:
† " تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ" (مز 23: 5).
† " فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ" (إش 19: 19).
† " لأَنَّهُ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الأُمَمِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَرَّبُ لاسْمِي بَخُورٌ وَتَقْدِمَةٌ طَاهِرَةٌ لأَنَّ اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الأُمَمِ" (ملا 1: 11).
وتارة من خلال الرموز مثل:
† تقدمة ملكي صادق وهيَ من خبز وخمر (تك 14: 18، 19).
† المن الذي نزل من السماء: "هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ.." (خر 16: 4 - 35).
† جمرة أشعياء التي تنتزع الأثم وتكفر عن الخطايا ( أش 6: 5 – 7 ).
وقد دُعي هذا السرّ بسر الإفخارستيا أي الشكر، لأنه السيد المسيح أخذ خبزًا وشكر، وسرّ الشركة لأنه شركة دم المسيح وشركة جسده (1 كو 10: 16)، ومائدة الرب (1 كو 10: 21)، وعشاء الرب، وسرّ التناول، لأننا نتناول فيه جسد الرب ودمه، والأنافورة أي إصعاد القرابين، والصعيدة أي الشيء الذي يُصعَد للَّه. كما دُعي السرّ بدم العهد الجديد، فقد قطع الرب مع البشرية من قبل عهودًا:
1) العهد مع نوح: "أُقِيمُ مِيثَاقِي مَعَكُمْ فَلاَ يَنْقَرِضُ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَيْضًا بِمِيَاهِ الطُّوفَانِ. وَلاَ يَكُونُ أَيْضًا طُوفَانٌ لِيُخْرِبَ الأَرْضَ. وَقَالَ اللَّهُ هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا وَاضِعُهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِي مَعَكُمْ إِلَى أَجْيَالِ الدَّهْرِ. وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمةَ مِيثَاق بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ" (تك 9: 11 - 13).
2) العهد مع إبراهيم: "وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا... هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ" (تك 17: 7، 10)..
3) العهد مع موسى: بدم خروف الفصح، وقال موسى: "الرب صنع معنا عهدًا في حوريب" (تث 5: 2).. " فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ" (خر 19: 5).
أما هذا العهد الجديد فقد قطعه الرب مع البشرية وكرَّسه بدمه الثمين على عود الصليب، وقد سبق إرميا وتنبأ عن هذا العهد: "هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا.." (إر 31: 31 - 34).
7- يقول "الأب متى المسكين": "هنا القصد من " اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي " أو " اصْنَعُوا هذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي ".. القصد منها واضح هنا وهو تحقيق وجود الرب بسرّ الإفخارستيا حضورًا إلهيًّا بحالته كمسفوك دمه، أي في حالة كفارة وغفران وخلاص وألم. فالتذكار هنا ليس لذكر إنسان مات وإنتهى، حاشا، بل هو ذكر وجود حي بالروح دائم، عوض وجود كان بالجسد. فالرب غير منظور وليس ميَّتًا، غير منظور بالجسد ولكنه حي بالروح وبلاهوته وقوة دمه الفادي في الإفخارستيا. لذلك يذكر ق. بولس... "اصْنَعُوا هذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي". ولماذا كلما شربتم؟ لأنه موجود في قوله: "هذَا هُوَ دَمِي. اشْرَبُوا منها كلكم ". فالرب واقف في كل إفخارستيا يُعطي بيده الخبز المكسور ويسقي بيده الدم المسفوك!!.. لذلك حينما يخطئ البعض ويقول: إن الإفخارستيا ليست سرًّا إلهيًّا بل مجرد ذكرى يكشفون عن عجز فاضح في فهم حضور الرب في الإفخارستيا حضورًا إلهيًّا فعَّالًا غافرًا ومُعطيًا حياة.
وقول ق. بولس " فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتمْ هذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ " يكشف هنا عن كرازة حية دائمة بسرّ موت المسيح على الصليب، وهو سرّ الفداء والكفارة. فكيف يمكن وبأي عقل تفهم أننا نقيم سرّ الفداء وسرّ كفارة بدون المسيح نفسه قائمًا..؟" (139).
كما يقول "الأب متى المسكين" أيضًا: "إن النص يذكر "هذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ" في صيغة المضارع الدائم باعتباره فعل المسيح الدائم في المستقبل أيضًا، أي كحقيقة فوق الزمان، ومضمونه أنه المذبوح على الصليب، والدم مسفوك منه لأجلكم، ثم يكمل بعد ذلك مباشرة "اصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي" حيث يكون المعنى حقَّقوا هذا الفعل الإفخارستي بحضوري بينكم مذبوحًا ودمي مسفوكًا على الأيام إلى أن أجيء. فهنا كلمة " لِذِكْرِي " تفيد التوقيع الزمني الدائم لفعل حضور الرب وهو مسفوك الدم ليكون فداءً دائمًا كتحقيق لوجوده الذاتي بيننا. والدليل القاطع على هذا التفسير ما أكمل به الكلام قائلًا: "فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ (تبشرون) بِمَوْتِ الرَّبِّ" (أي تحقّقون عمل الكفارة والغفران في حياتكم) إلى أن آجيء.
بهذا تُفهم الإفخارستيا أنها فعل تحقيق موت الرب لتكميل قوة الكفارة ومغفرة الخطايا بواسطة المسيح الحاضر في الكسر والسكب كل يوم وإلى مدى الأيام ونهاية الدهر" (140).
_____
(140) المرجع السابق ص762.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/422.html
تقصير الرابط:
tak.la/jcbps2f