س212: هل اقتباس متى الإنجيلي (مت 2: 17، 18) من سفر إرميا (إر 31: 15) اقتباس خطأ لأن متى يتحدث عن بيت لحم أما إرميا النبي فأنه يتحدث عن الرامة، كما أن أطفال بيت لحم هم أبناء ليئة وليسوا أبناء راحيل، وأيضًا يتحدث متى عن ضحايا هيرودس الملك بينما يتحدث إرميا عن ضحايا نبوخذ نصر الذي اقتحم أورشليم وهدم الهيكل وقتل الآلاف وأجلى الآلاف إلى أرض بابل، وقد صوَّر إرميا راحيل بعد موتها تبكي هؤلاء الضحايا، ثم ذكر وعد اللَّه لراحيل بعودة أولادها من بابل إلى بلادهم (إر 31: 16، 17)، بينما مات أطفال بيت لحم ولم يعودوا للحياة ثانية؟
يقول "علاء أبو بكر": "س79... هذا اقتباس بشري وليس وحي، فقد استعار متى صورة من إرمياء ليعبر بها عن حادثة بختنصَّر التي وقعت في عهد إرميا، فقتل فيها ألوفًا من بني إسرائيل، وأسر ألوفًا منهم وأجلُوا إلى بابل، ولما كان فيهم كثير من آل راحيل أيضًا تألم روحها في عالم البرزخ، فوعد اللَّه أنه يرجع أولادها من أرض العدو إلى تخومهم" (348).
ج: 1ــ تكلم الرب في سفر إرميا: " هكَذَا قَالَ الرَّبُّ. صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ، بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ. هكَذَا قَالَ الرَّبُّ. امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَيُوجَـدُ رَجَاءٌ لآخِرَتِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ" (إر 31: 15 - 17). فقد اقتحم نبوخذنصَّر سنة 586 ق.م أورشليم وقتل كثيرين من وجهاء أورشليم وقلع عيني صدفيا الملك بعد أن قتل بنيه أمام عينيه (2 مل 25: 7)، وجمع رئيس الشرط سرايا الكاهن الرئيس وصفنيا الكاهن الثاني وحارسي الباب الثلاثة، مع خصي وخمسة من مستشاري الملك، وكاتب رئيس الجند، وستين رجلًا، فقتلهم نبوخذ نصر (2 مل 25: 18 - 21)، وجمع نبوخذ نصر الأسرى في الرامة وهم مكبَّلون بالسلاسل والأغلال ليذهب بهم إلى بابل، والرامة من نصيب سبط بنيامين تقع شمال أورشليم بنحو ثمانية كليومترات، فصوَّر إرميا النبي راحيل وكأنها ما زالت حيَّة تبكي أولادها الذين قُتلوا بيد نبوخذنصَّر وأيضًا الذين ذهبوا للسبي، بالرغم من أن راحيل: " دُفِنَتْ فِي طَرِيقِ أَفْرَاتَةَ الَّتِي هِيَ بَيْتُ لَحْمٍ" (تك 35: 19) وبيت لحم من سبط يهوذا، وتقع جنوب أورشليم، فما حدث في الرامة شعرت به راحيل المدفونة في بيت لحم، ثم نطلق إرميا النبي بالوعد الإلهي لراحيل بعودة أولادها من سبي بابل إلى بلادهم.
أما القديس متى فقد اقتبس من هذه القصة الجزئية الأولى فقط، الخاصة بالمأساة التي حلت بالشعب اليهودي من جراء ما فعله نبوخذنصَّر، للتدليل على بشاعة ما فعله هيرودس عندما ذبح أطفال بيت لحم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى: " حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ. صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ" (مت 2: 17، 18)، فالمذبحة جرت في بيت لحم وسُمِع صوت العويل في الرامة، مثلما مرَّ المسبيُّون على الرامة فأحست بهم راحيل المدفونة في بيت لحم، ولم يقتبس القديس متى الجزئية الثانية الخاصة بعودة المسبيَّين إلى بلادهم (إر 31: 16، 17)، مع أن قوله: " امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِك" تنطبق بالأكثر على أطفال بيت لحم الأبرياء لأنهم سينالون الجزاء أي المكافأة السمائية، أما اليهود الذين قُتلوا أو سيقوا للسبي فلم يكونوا أبرياء، بل أن كل ما جرى لهم كان بسبب خطاياهم (راجع الراهب القس يوسف البرموسي - تساؤلات في إنجيل متى ص35).
ويقول "ر. ت. فرانس": " ليس هناك تشابه تام، إلاَّ أن العلاقة تكمن في إدراك عمل اللَّه الذي يستخلص البركة من خلال التجارب الأليمة، وعبر الموت يُعطي الحياة... فالعلاقة إذًا ليست بالنسبة للرامة أو راحيل... ولكن العلاقة في الحزن كمقدمة للبركة" (349).
ويقول "وليم باركلي": " والصورة التي يرسمها إرميا هنا هيَ صورة الشعب اليهودي وهو في طريقه إلى السبي... وفي طريقهم يمرون بالرامة... ويصوّر إرميا راحيل في قبرها تبكي الشعب اليهودي المنهزم والمسبي إلى أرض غريبة. ولكن متى يستخدم أيضًا هذه النصوص ليجعلها تناسب الصورة الجديدة في قصة ميلاد المسيح وحياته" (350).
2ــ يقول "القس سمعان كليهون": "صوت سُمِع في الرامة... هذا الكلام مقتبس من (إر 31: 15) وهو يشير أصلًا إلى الأسر البابلي، لأن راحيل أم يوسف وبنيامين دُفِنت قرب بيت لحم، فكنى النبي عن هول المصيبة التي حلَّت على اليهود وقت السبي بخروجها من قبرها لتنوح على أسر اليهود. وهو يعبّر بذلك عن عُمق حزن الأمهات المنفيات من يهوذا في ذلك السبي. وهذا الكلام يصدق بنوع خاص على حادثة ذبح الأطفال في بيت لحم، ليس فقط لأن تلك المصيبة الأولى قد تجددت، بل لأن النبوة تتم بها حرفيًا، لأن أولاد راحيل لم يساقوا فقط إلى السبي بل أُبيدوا بيد هيرودس الذي يدعو ذاته ملك إسرائيل" (351).
3ــ يقول "متى هنري": " انظر وتعجب من إتمام النبوات. لقد تمت هذه النبوة أولًا في أيام إرميا عندما أحضر نبوزرادان كل المسجونين إلى الرامة بعد حرق أورشليم (إر 40: 1)، وهناك - في الرامة - أسلمهم إلى السيف أو إلى السبي حسبما أراد. وعندئذ سُمع صوت البكاء في الرامة في بيت لحم، لأن المدينتين - وأحدهما من نصيب سبط يهوذا والأخرى من نصيب بنيامين - لا تبعدان عن بعضهما كثيرًا. والآن تتم هذه النبوة مرة أخرى في ذلك الحزن البالغ بسبب قتل هؤلاء الأطفال.
وهنا نرى كيف تتم النبوات: 1ــ في مكان هذا الحزن. لقد سُمِع الصوت من بيت لحم إلى الرامة لأن قسوة هيرودس نشرت ألويتها على كل تخوم بيت لحم، حتى في نصيب بنيامين بين أبناء راحيل... كانت راحيل تضع كل قلبها على الأطفال، والابن الذي ولدته وماتت وقت ولادته دعته "بن أونى" أي "ابن حزني" (تك 35: 18). كانت هؤلاء الأمهات (لأطفال بيت لحم) كراحيل، ويعشن بالقرب من قبر راحيل، والكثيرات منهن من سلالة راحيل، ولذلك قد لاق أن يُشبّه حزنهن بحزن راحيل" (352).
4ــ كانت راحيل قريبة من كل من الرامة ومن بيت لحم، وعندما وزع يشوع بن نون أرض الموعد كانت الرامة من نصيب سبط بنيامين (يش 18: 25)، وبنيامين هو ابن راحيل، وفي بيت لحم دُفِنت راحيل، ولذلك ذكر إرميا النبي راحيل ولم يذكر أختها ليئة، وأيضًا يعتبر أبناء ليئة كأنهم أبناء راحيل أخت ليئة، بل أن كثير من اليهود كانوا يعتبرون أن راحيل أمهم جميعًا، كما يُدعى الناس أنهم أبناء آدم وحواء، ويدعي اليهود أنهم أبناء إبراهيم، وأنهم بنو إسرائيل، وهكذا نسب القديس متى أطفال بيت لحم إلى راحيل.
وقد يتساءل البعض: لماذا نسب البكاء والعويل لراحيل ولم يُنسَب ليعقوب؟.. ذلك لأن هؤلاء الأطفال انتزعوا من أحضان أمهاتهم، ولا نغفل أن حنان الأمهات يفوق حنان الآباء.
وقد يتساءل البعض: كيف لراحيل أن تبكي أطفال بيت لحم بعد موتها بنحو 1700 عام أو ما يزيد؟.. يقول صاحب "كتاب الهداية": " ولا شك أن قول النبي إرميا صدق وتحقَّق وتم في هذه الحادثة المحزنة أيضًا، ولا يُخفى أن راحيل كانت ماتت قبل السبي، ومن أنواع البلاغة أن نسب النبي إليها البكاء والنحيب على أولادها وقت السبي، ونسب إليها البكاء على أولادها وقت حادثة بيت لحم، فإن ذبح أطفال بيت لحم هو بمنزلة ذبح أولادها لأنها مدفونة هناك (تك 35: 19)، وسكان بيت لحم هم من ذرية زوجها وأختها (ليئة) فهم أولادها، وعبارة متى من أبلغ الأقوال، فقوله راحيل تبكي على أولادها هيَ جملة خبرية لفظًا، وأريد منها إنشاء التحسُّر والتأسُّف والتلهُّف على ذبح الأطفال، فإن كل عائلة كانت تبكي على مفقودها، فشخَّص راحيل خارجة من قبرها باكية على أولادها ولم تقبل عزاء ولا هناء لأن أفلاذ كبدها ماتوا، وهو معهود في العربية وغيرها... كقوله:
أيا شجر الخابور مالك مورقًا كأنك لم تجزع على ابن طريق
فكيف لا يجوز نداء الأم لتبكي على أولادها؟!، فعبارات البشير متى من المحاسن اللغوية"(353).
5ــ لاحظ قول القديس متى "حِينَئِذٍ تَمَّ" ولم يقل "لكي يتم"، وهناك معنى خفي وراء كل عبارة يختلف عن الآخر، فيقول "بنيامين بنكرتن": " ولنلاحظ أن الوحي لا يقول هنا: "لكي يتم" بل يقول: "حِينَئِذٍ تَمَّ". ولاختلاف العبارتين أهمية كبرى لأنه إذا قيل عن حادثة أنها صارت "لكي يتم ما قيل" فيكون المعنى أن هذه الحادثة هيَ المقصد الأصلي للنبوة المذكورة، وأما إذا قيل: "حِينَئِذٍ تَمَّ" كما هو مذكور هنا فيكون المعنى أن الحادثة ليست هيَ المقصد الأصلي، بل هيَ من جملة حوادث تصدق عليها النبوة. فالنبوة المقتبسة هنا صدقت أولًا على حالة إسرائيل وقت سبي بابل لما كانت الأرض قد أثكلت، وتكلم النبي عن ذلك الخراب العظيم مصوّرًا راحيل امرأة يعقوب المحبوبة، والتي كانت مدفونة بالقرب من بيت لحم (تك 35: 19) كأنها قد قامت من الأموات وسألت عن أولادها، ولما لم تجدهم أبت التعزية لأنهم ليسوا بموجودين في أرضهم بل مشتتين بسبب ظلم أعدائهم، كذلك كانت حالتهم في زمان ولادة المسيح، لأن الوارث الحقيقي نفسه كان هاربًا من وجه الظلم، والملك الكذاب يسطو كذئب خاطف على الذين بقوا في الأرض"(354).
6ــ ينقل علاء أبو بكر قول النُقَّاد المسلمين السابقين الذين قالوا أن روح راحيل تألمت في عالم البرزخ، والبرزخ في المفهوم الإسلامي هو الحد الفاصل بين عالم الأرواح وعالم الأجساد، ويعتقد الأخوة المسلمون أن سكان البرزخ يعرفون أحوال أقاربهم، ونحن لا نؤمن بالبرزخ، ولا بالصراط، ولا بالميزان (راجع كتاب الهداية ج2 ص208) وكان الأولى بالناقد أنه عندما يناقش أمور إيمانية مسيحية أن ينظر إليها من منظار مسيحي، وليس من أي منظار آخر، ويطبق في هذا حكم القرآن: " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه فيه" (المائدة 5: 47) فنحن الذين نُفسر الإنجيل ونوضح المقصود من آياته... وكما أنه لا يصح مناقشة قضايا إسلامية بدون الرجوع إلى كُتب التفسير والفقه الإسلامي، هكذا لا ينبغي أن يُناقش الناقد قضايا مسيحية من وجهة نظر غير مسيحية.
_____
(348) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 2 ص86.
(349) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل متى ص86 ، 87.
(350) تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص36.
(351) إتفاق البشيرين ص75.
(352) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص48 ، 49.
(353) الهداية جـ 2 ط 1900م ص207.
(354) تفسير إنجيل متى ص31.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/212.html
تقصير الرابط:
tak.la/hrwy6vk