ج: 1- استعبد عجلون بني إسرائيل لمدة ثماني عشرة عامًا، وهو يذلهم ويستنفذ مواردهم، فحرَّك روح الله أهود بن جيرا ليحرر شعبه من تلك العبودية المرة، ولم يكن أهود صديقًا لعجلون حتى يعد اغتياله له خيانة، إنما كان عجلون يحتل الأرض ويستعبد الشعب، وللشعب الحق في الدفاع عن نفسه وممتلكاته وأرضه، فكأن الساحة أشبه بساحة الحرب، وفي الحروب يستخدم الإنسان كافة الوسائل من دهاء ومباغتة وحيل وخداع ووهم وخطط حربية، فالهدف الجوهري هو هزيمة الخصم، وفي الحروب ليس هناك مجال للرأفة والشفقة.
2- عندما حرَّك روح الله أهود ليخلص الشعب، لم يرد أهود أن يُعرّض شعبه الأعزل للصراع المسلح مع جيش عجلون القوي، ولذلك تحمل أهود المسئولية كاملة، وخاطر بحياته، واضعًا رأسه على كفه، ووضع الخطة لاغتيال عجلون في عقر داره، ولم يخبر أحد بهذا، وعمل سيفًا قصيرًا ذو حدين وأخفاه بين طيات ملابسه، وعقب تقديم الهدايا والإكرام للملك انصرف أهود مع رجاله، ثم شيّعهم إلى مكان أمين ليضمن سلامتهم، ثم عاد ليتمم خطته بمفرده، فاغتال الملك الذي لم يكن على قدر من الذكاء والحيطة، وأغلق الباب خلفه، وسار في خطىٍ ثابتة وشجاعة نادرة، فلم يشك فيه أحد، بل لعل الحراس قد ودعوه بحرارة، ومن لا يتوَّدد لحبيب الملك..؟! أسرع أهود إلى جبل أفرايم وضرب بالبوق الذي لم يُسمع صوته منذ زمن طويل، فأسرع إليه بنو أفرايم يستوضحون الأمر، وإذ بالحماسة والغيرة تدب فيهم، وقد تمررت حياتهم بعبودية الموآبيين، أسرعوا إلى مخاوض الأردن وسدوا الطريق أمام جنود عجلون الذي يريدون الفرار إلى أرضهم شرق الأردن، وأيضًا لمنع أية إمدادات قد تصلهم من بلادهم، ونشبت الحرب في وسط ربكة الموآبيين الذين قُتل ملكهم في قصره، وانتهت بقتل عشرة آلاف جندي من موآب، وتحققت النصرة بأقل خسارة ممكنة.
3- يقول " المطران يوسف الدبس": "إن الشرقيين كانوا يفضلون الحيلة على الحروب لقلة عدد القتلى والمصابين، وقد اعتُبِرَت هذه الأعمال نوع من البطولة، وقد أثنى الرومان على هرموديوس وأرستوجيتون لأنهما فعلا ما فعله أهود، ومدح الرومان موشيوس سكافولا وكان أعسر أيضًا مثل أهود لأنه قتل بالحيلة " ببرسينا " الذي حاصر روما.
ودافع " هردر " في تاريخ شعراء العبرانيين(1) عن أهود بن جيرا قائلًا {فمن دأب هؤلاء المندّدين أن يتناسوا الزمن الذي كُتب هذا السفر فيه. فالقبائل القديمة كانت تستبيح استعمال أخبث الحيل في حروبها، ولم تزل هذه العادة عند بعض الشعوب الذين لم يبلغوا ذروة التمدُّن فأنهم على ما لهم من البسالة والسطوة يؤثرون الحيلة على القوة، وكانت الضرورة تقضي بهذا الدهاء على شعب يضطهده جيرانه وهو قلق في داخله. ولم تبقَ الحمية الطائفية إلاَّ في بعض أفراده، ولم يكن له رئيس ولا حاكم يهتم بالمصالح العامة، وهل لفرد لو عظمت شجاعته أن يدَّعي مقاومة عسكر برمته؟ ولم تكن في تلك الأيام الاختراعات التي جعلت الحرب صناعة وعلمًا، أو ليست هذه الاختراعات نفسها أكبر حيلة ودهاء. وهل من حيلة أو شجاعة أخسُّ مما يقذفه أحد المدافع"(2).
4- عندما ذكر الكتاب قصص الخداع، مثل خداع ابنيّ يعقوب شمعون ولاوي لأهل شكيم إذ قتلوهم وهم مختونين (تك 34) وقصة ياعيل عندما قتلت سيسرا بعد أن استضافته (قض 4) وقصة يهوديت زوجة منسى التي خاتلت أليفانا رئيس جيش أشور فأسكرته وقطعت رأسه وحملتها إلى قومها (سفر يهوديت) مثل هذه القصص ذكرها الكتاب كوثائق قد حدثت، ولم يذكرها من قبل المدح، فالكتاب دوَّن الأمور بحلوها ومرها، فلا عيب يقع على الكتاب. وإن كنا لا نغض النظر عن شجاعة أهود ومخاطرته بنفسه، فإننا نؤكد أيضًا أن أهود لم يستشر الله بخطته هذه، ولو استشار أهود الله لأرشده للتصرف الصحيح، وكان سيهبه النصرة كما وهب جدعون برجاله الثلثمائة على جيش جرار قوامه 135 ألفًا.
5- جاء في كتاب " غوامض العهد القديم": "نحن لا ننكر بأن الخيانة والغدر مكرهتان أمام الرب. وإنهما جريمة ضد الإنسان وضد النظام وضد القانون الإلهي... قد يجوز أن أهود كان يظن أنه مدفوع بعامل إلهي. ويصح أيضًا أن الشعب الذي كان تحت قيادته استحسنوا العمل الذي قام به. بل ربما كان يباهي به كعمل ديني ووطني معًا، ومع ذلك فليس ثمة ما يمنعنا أن نسمي عمله هذا غدرًا وقتلًا شنيعًا، ولا سبيل إلى إنكار فعلته الشنعاء... قال أحد المفسرين أننا لا نستطيع أن نمتدح عمل أهود ولا يجوز لنا أن نرثى له بأن حال خصوصًا لما أحاط جريمته من الغدر والخيانة. غير أن إتقاد شعلة الحماس الوطني والغيرة على مصلحة بلاده تخفف إلى نوع ما من شناعة عمله في نظر معاصريه الذين تشربت نفوسهم بالدفاع عن حقوقهم، الأمر الذي يختلف تأثيره في نظرنا نحن الذين صرنا نحكم على الوقائع الماضية بنور التاريخ الحديث دون أن نراعي الفرق بين العصرين.
قال العلامة ستارك: أن أهود قتل عجلون عدو إسرائيل ومع هذا فلا يعتبر قاتلًا بالمعنى الذي نفهمه لأنه كان محاربًا، وهو لم يَقدم على عمله هذا بدافع الانتقام الشخصي لأنه لم تكن بينهما خصومة شخصية ولا بداعي التعصب الأعمى بل قتله بعامل الغيرة على بلاده وطلبًا في حرية قومه وحبًا في ديانته. وإن كان الرب هو الذي أقامه للقضاء ولكن كلمة الله لم تستحسن فعلته. نعم أُقيم لينقذ إسرائيل ولكن ليس هناك أقل سبب يدعونا إلى نسبة عمله لدافع إلهي. فإن الله لم يوحِ إليه بذلك ولم يدفعه قط إلى ارتكاب خطأ لأنه تعالى لا يبرئ قاتلًا ظالمًا ولا غادرًا سياسيًا"(3).
6- كان أهود أعسر، وهذا سهل له مهمة الاغتيال، فعندما حرك يده اليسرى لم يثر هذا أية شكوك لدى عجلون ولم يأخذ حذره منه، ولم يصرخ ويستغيث، وفي لمح البصر كان السيف القصير قد استقر في أحشاء عجلون ومن قوة الطعنة عجز عجلون عن إطلاق صرخته الأخيرة، وانصرف أهود في هدوء وسلام، بينما لبث عبيد الملك وجنوده خارج الباب ينتظرون، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. " فقالوا أنه مغطٍ رجليه في مخدع البرود" (قض 3: 24) و" مغطٍ رجليه " هو تعبير مؤدب عن قضاء الحاجة، وأحيانًا تكون تعبيرًا عن النوم كقول الكتاب " وكان هناك كهف فدخل شاول لكي يغطي رجليه وداود ورجاله كانوا جلوسًا في مغابن الكهف" (1 صم 24: 3) ولكن عندما طال الوقت توجسوا من الأمر، واسترقوا السمع، ثم طرقوا الباب فلا مجيب، وعندما فتحوه فوجئوا بعجلون ساقطًا عن كرسيه مضرَّجًا في دمائه، وأسرعوا يبحثون عن القاتل، ولكن الوقت كان قد فات، ووصل أهود إلى جبل أفرايم، وأعلن قتل عجلون ملك موآب، فأثار حفيظة الشعب وأسرعوا لحرب الموآبيين الذين كانوا في فوضى شديدة من هول الصدمة.
_____
(1) ص 437.
(2) تاريخ الشعوب المشرقية في الدين والسياسة والاجتماع جـ 2 ص 202، 203.
(3) الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد جـ 1 ص 74، 75.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/994.html
تقصير الرابط:
tak.la/j4c758f