ويقول عاطف عبد الغني " ماذا يكون حكم التوراة في راحاب لو تبدَّلت المواقع وكانت هي من إسرائيل فخانتها لصالح أعدائها؟! كل المطلوب من المؤمنين بالتوراة في صورتها الحالية أن يعيدوا تفكيك بعض المواقف ويعيدوا تركيبها، فإذا وجدوها حقيقة ثابتة فهي لا شك حقيقة ربانية، فعندما يُوصي الله: لا تزن... فقد حرَّم فعل الزنا على عباده، ولا يمكن أن تتحوَّل زانية إلى قديسة إلاَّ إذا تابت وآمنت وعملت من الصالحات ما تستحق عليه ذلك، وفي حالة راحاب فقد وصمتها التوراة بالزنا حتى بعد أن دخلت إسرائيل وسكنت وسطها"(1).
ويقول الفيلسوف الفرنسي " فريره نيقولا" (1688-1740 م.) " علينا أن نقرَّ أن راحاب كانت مجرد مجرمة تستحق أقصى العقاب، فقد خانت وطنها وسلمته إلى برابرة متوحشين"(2).
ج: 1- لم يمتدح الكتاب راحاب على كذبها وخيانتها لوطنها، إنما امتدحها على إيمانها العملي بإله إسرائيل، فقد آمنت بالله وبوعوده لمنح الأرض لبني إسرائيل، وطلب النجاة ليس لنفسها فقط بل لكل ذويها، وقالت للجاسوسين " وتستحيّا أبي وأمي وأخوتي وأخواتي وكل ما لهم وتخلصا أنفسنا من الموت" (يش 2: 13) وشهد لإيمانها العملي العهد الجديد، فقال معلمنا بولس الرسول " بالإيمان راحاب لم تهلَك مع العصاة إذ قبلت الجاسوسين بسلام" (عب 11: 31) وغني عن البيان أن راحاب لو كانت متمسكة بخطيتها لهلكت بلا شك مع العصاة، وقال معلمنا يعقوب الرسول " كذلك راحاب الزانية أيضًا أما تبرَّرت بالأعمال إذ قبلت الرسل وأخرجتهم في طريق آخر" (يع 2: 25) وإن كان يصفها بالزانية فهذا وضعها السابق قبل التبرير، ولكن بعد التبرير فهي قديسة، وهي جدة للسيد المسيح بحسب الجسد، والسيد المسيح الذي تجسد ليحمل خطايا البشرية، وقد جاء من أجل الأشرار والضالين والخطاة والعصاة لم يستنكف أن تكون إحدى جداته " راحاب " التي كانت زانية أو " راعوث " التي كانت موآبية.
ويقول القمص تادرس يعقوب " بينما هلك شعب الله بسبب عدم الإيمان فماتوا في البرية، إذا بالأمميّة الزانية تغتصب المواعيد الإلهيَّة بالإيمان الحي العامل، فيصير لها ولعائلتها نصيب في أرض الموعد، ويأتي المسيا المخلص متجسدًا من نسلها (مت 1: 5)"(3).
2- من الصعب أن نحكم على راحاب التي عاشت في العهد القديم تحت الخطية والوثنية بأحكام العهد الجديد، ومع هذا فإننا نقول أن الإنسان المؤمن يجب أن يخضع للحكام ويقدم لهم الإكرام اللائق ويطيعهم، فيدفع الضرائب، ويؤدي الخدمة العسكرية ويلتزم بقوانين الدولة التي يعيش فيها، ويصلي من أجل الحكام كوصية الإنجيل " فأطلب أول كل شيء أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس. لأجل الملوك وجميع الذين في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار" (1 تي 2: 1، 2) والشرط الوحيد لطاعة الحكام هو أن لا تتعارض طاعتهم مع طاعة الله تبارك اسمه، وهذا ما أوضحه سفر الأعمال: "فأجاب بطرس والرسل وقالوا ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس" (أع 5: 29) وعندما قال معلمنا بطرس أيضًا " خافوا الله. أكرموا الملك" (1 بط 2: 17) فقد جعل مخافة الله قبل إكرام الملك.
3- جاء الحكم الإلهي بالقضاء على شعب أريحا وملكها قضاءً مبرمًا، وعندما آمنت راحاب بإله إسرائيل فإن ولائها تحوَّل من ملك أريحا لإله إسرائيل، ويقول الخادم الدكتور " شنودة سمير القمص": "لم يقل الكتاب أن الله بارك راحاب لأنها كذبت، إنما امتدحها الإنجيل (عب 11: 31، يع 2: 25) لأنها عملت حسنًا بإخفائها الجواسيس وإرسالهم في طريق السلام، وبهذا أعلنت إيمانها العملي، فعندما كان عليها أن تختار ما بين الله وملك أريحا لم تتردد في اختيارها قط. ومع هذا فإننا لا نستطيع أن نبرئ راحاب من خطية الكذب، والغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة، وقد حذرنا الكتاب من الوصول للخير بعمل الشر " أَما كما يُفترى علينا وكما يزعم قوم أننا نقول لنفعل السيئات لكي تأتي الخيرات. الذين دينونتهم عادلة" (رو 3: 8) ولو عاشت راحاب حياة الفضيلة من قبل كان يمكنها أن لا تكذب، فتقول لرسل الملك مثلًا " تعالوا فتشوا بأنفسكم " ولا بُد أن الله كان سيتدخل وينقذ الموقف. إذًا من الممكن أن نقول أن الله بارك راحاب رغم كذبها، ولكن من المستحيل أن نقول أن الله بارك راحاب لأجل كذبها"(4).
4- دافعت راحاب عن ضيوفها بحسب مبادئها الأدبية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فلا تنسى أنها عاشت حياتها في الوثنية والخطية، لا تعرف الله، وبعيدة عن حياة الفضيلة. فكذبت لأجل إنقاذ الرجلين وهي تظن أنها تفعل الخير، ولا شيء غير الخير، فكان جلَّ اهتمامها هو إنقاذ الجاسوسين من الموت الذي يحيق بهما، وبحسب فكرها الأضيق لم يكن أمامها سوى خيارين أولهما أن تكذب وتنقذ الرجلين من الموت، وثانيهما أن تَصدُق وتسلمهما للموت، فاختارت البديل الأول، وقد نظر الله إليها بعين الرحمة، ليس كأنه يوافق على كذبها، إنما كأنه يمتدح مشاعرها النبيلة وتضحيتها الجسيمة، فلو أُكتشف أمر الرجلين لفقدت حياتها هي أيضًا بتهمة الخيانة العظمى. لقد جازفت راحاب بكل شيء من أجل إله إسرائيل الذي لا تعرف عنه إلاَّ القليل.
5- جاء في كتاب "غوامض العهد القديم": "كطلاب حق منصفين للتاريخ نفهم بأن التربية الأدبية في ذلك العصر لم تكن قد نضجت بعد، بل كانت في مبادئها البسيطة الضعيفة جدًا... قال أحد علماء التفسير (عن راحاب):.. إنها كانت مقتنعة تمامًا بأن قضية إسرائيل هي قضية الله الإله الحقيقي وكل من يقاومها يرتكب أعظم الجرائم... راحاب لم تُمدح لأجل كذبها وخداعها بل لإيمانها، سواء أصابت السبيل الذي اتخذته لإظهار هذا الإيمان أم لم تصب.
وقال عالِم آخر هب أننا سلمنا جدلًا بأن راحاب ارتكبت خطية الكذب، فلم يكن ذكر ذلك في الكتب المقدَّسة إلاَّ دليلًا على صحة ما ورد فيها، لأن المؤرخ الإلهي لم يستر عيوب أحد من أبطاله كما يفعل المؤرخون العالميون الذين لا يرضون بنسبة الخطأ والنقص إلى أبطالهم بل يذكرون عنهما ما يُشكرون عليه ويغضون النظر عن نقائصهم. ولا يُخفى أن راحاب تربت ونشأت بين قوم يعبدون الأوثان لم يهتموا كثيرًا بقول الحق، وعاشت في أريحا أعظم مدن كنعان، بل لم تكن قد تعلمت أن استعمال شيئًا من الحيلة في سبيل العمل الصالح يعتبر خطية. وكان مثلها في ذلك مثل القابلات المصريات اللواتي كذبن على فرعون لاستحياء أطفال النساء العبرانيات، وفي كلتا الحالتين رضى الله عن أعمال الإيمان والرحمة وأن يكن اللوم عليهن"(5).
6- لم تسلم راحاب وطنها لبرابرة متوحشين كقول "فريدة نيقولا"، إنما الله هو الذين سلم مدينة أريحا لشعبه ليجروا فيها عدله الإلهي، لأن شرورها صعدت إلى عنان السماء، ووصلت إلى مرحلة اللاعودة.
_____
(1) أساطير التوراة ص 55.
(2) أورده ليوتاكسل - التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 214.
(3) تفسير سفر يشوع ص 51.
(4) من أبحاث النقد الكتابي.
(5) الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد جـ 1 ص 48، 49.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/918.html
تقصير الرابط:
tak.la/hdjjt3z