يقول زينون كوسيدوفكسي " لقد أهداه يعقوب ثيابًا مزركشة ذات ألوان جميلة ولم يرهقه أبدًا بالأعباء المنزلية، أما أولاد بلهة وزلفة فقد كلفهم يعقوب برعي القطيع وكانوا يقضون أيامًا طوالًا في المراعي، بينما كان يوسف يتبختر في البيت بثيابه الفخمة وبشعره المصفف الذي يظهره وكأنه فتى البيت المدلل. ولذلك كان يوسف متكبرًا متعاليًا كثير المديح لنفسه، ويحاول أن يُظهِر نفسه أذكى من إخوته في كل شيء، والأسوأ من ذلك أنه كان يراقبهم ويشي بهم إلى أبيه... ولذلك حقدوا من الأعماق على أخيهم النمَّام المتباهي المتعالي الذي أفسد عليهم حياتهم. لكن يوسف الغارق في التباهي بنفسه إلى أبعد الحدود لم يكترث لحنق إخوته المتناهي ضده. ولم يكن يمضي يوم دون أن يزعجهم بموقف من مواقفه. وأكثر ما كان يزعج إخوته فيه هو حديثه عن الأحلام التي يراها والتي كان فيها إخوته يلعبون أدوارًا حقيرة ذليلة بالنسبة لدوره"(1).
ج: تصوُّر زينون كوسيدوفسكي عن شخصية يوسف، هو تصوُّر من وحي الخيال، حيث لا يجد له سندًا كتابيًا ولا تاريخيًا، وما أكثر الأدلة على هذا، ولكن لضيق المجال نكتفي بما يلي:
1- قال كوسيدوفسكي أن يعقوب أرهق أبناء الجاريتين بلهة وزلفة بالعمل بالرعي، والحقيقة أن جميع أبناء يعقوب كانوا يرعون قطعانهم، حتى يوسف " إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته" (تك 37: 2) وعندما ذهب أبناء يعقوب إلى شكيم ليرعوا قطعانهم كانوا معًا الأحد عشر ابنًا، ولم يكن مع يعقوب غير يوسف والذي أرسله إليهم منفردًا ليفتقد سلامتهم.
2- قال كوسيدوفسكي أن يوسف كان متكبرًا متعاليًا كثير المديح لنفسه يتبختر في البيت بثيابه الفخمة وشعره المصفف... إلخ... فهل رآه كوسيدوفسكي بهذه الصورة..؟! هل قرأ عنه في أي سجل وإذ هو بهذه الأوصاف..؟!! لقد كان يوسف يتيم الأم، إنسانًا متواضعًا محبًا مطيعًا أمينًا عفيفًا... عندما طلب منه أبوه أن يفتقد سلامة إخوته ظهرت طاعته لأبيه ومحبته لإخوته وأمانته في البحث عنهم، حتى لو ضل الطريق بمفرده " فقال إسرائيل ليوسف أليس إخوتك يرعون عند شكيم. تعالَ فأرسلك إليهم. فقال هآنذا... فوجده رجل وإذ هو ضال في الحقل. فسأله الرجل قائلًا ماذا تطلب. فقال أنا طالب إخوتي. أخبرني أين يرعون. فقال الرجل قد ارتحلوا من هنا. لأني سمعتهم يقولون لنذهب إلى دوثان. فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان" (تك 37: 13 - 17).
3- قال كوسيدوفسكي أن يوسف كان يراقب إخوته ليشي بهم عند أبيهم، والحقيقة أن يوسف لم يراقبهم ولم يتصنت عليهم، بل أن إخوته أبناء بلهة وزلفة تكلموا في العلن بطريقة غير لائقة عن أبيهم يعقوب، فاستاء من كلامهم وشكاهم لأبيه.
4- قال كوسيدوفسكي أن يوسف كان يُظهِر نفسه أنه أذكى من إخوته، ولم يمضي يومًا واحدًا دون أن يزعجهم بموقف من مواقفه ولاسيما أحلامه، والحقيقة أن يوسف كان إنسانًا مسالمًا طيب القلب، الذي على قلبه على لسانه، ومن بساطته ذكر الحلمين اللذين رآهما لأبيه وإخوته، دون أن يقصد قط أن يؤذي مشاعر أحد منهم، ولو كان يقصد أن يسئ لإخوته، فهل قصد أيضًا أن يسئ لأبيه الذي يحبه؟! فما ذكره يوسف يخص إخوته وأبيه وأمه أيضًا، وقص يوسف الحلم بالكامل لم يحذف منه شيئًا تحسبًا لمشاعر أبيه. ولا يوجد في الكتاب ما يشير إلى أن يوسف كان مصدر نقد لإخوته كل يوم.
5- لو كان يوسف بهذه الصفات الذميمة التي تصوَّرها كوسيدوفسكي، فكيف صار محبوبًا جدًا في بيت فوطيفار، وفي السجن، وفي قصر فرعون ؟!
6- لو كان يوسف بهذه الصورة من الكبرياء والأنانية والحقد الدفين، فكيف ينجح في كل ما يعمله " لأن الرب كان معه ومهما صنع كان ينجحه" (تك 39: 23).
7- لو كان يوسف متكبرًا محبًا لذاته متبخترًا أنانيًا، فكيف يقف ضد سطوة الخطية، وكيف تكون له هذه الوقفة القوية العنيدة أمام امرأة سيده، ويرفض ارتكاب الشر، حتى لو كان الثمن سجنه أو موته ؟!
8- لو كان يوسف يحقد على إخوته بشدة ولا يبالي بمشاعرهم، ألم تكن تتوطد هذه المشاعر في قلبه، ولاسيما بعد محاولة اغتياله أو التخلص منه؟ كيف يصفح عن إخوته، بل ويعزيهم ويطيب خاطرهم ويحتضنهم ويبكي أمامهم " أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر. والآن لا تتأسفوا لأنكم بعتموني إلى هنا. لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم... فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله" (تك 45: 4 - 8)؟!!
9- إنني لا أتعجب من الناقد الغربي كوسيدوفسكي بقدر تعجبي من الدكتور محمد مخلوف مترجم كتاب كوسيدوفسكي، الذي لم يكلف نفسه عناء تدوين ملاحظة صغيرة يعلن فيها رفضه لهذه هذه الأفكار التي لا تتوافق على الإطلاق مع عقيدته.
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 72.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/532.html
تقصير الرابط:
tak.la/g64y9pc