ج: أوضح داروين دور الإنسان في الانتقاء الطبيعي فقال " فإن الإنسان لا يستطيع استحداث ضروب، ولا يستطيع أن يمنع ظهورها، ولكنه يستطيع أن يحتفظ ويكدس كل ما يحدث على علاته"(1) كما يوضح داروين دور الطبيعة في الانتقاء الطبيعي، فيقول " وبما أن الإنسان يستطيع أن يخرج بنتيجة عظيمة مع حيواناته ونباتاته الداجنة بإضافة اختلافات فردية في أي اتجاه محدد، فكذلك يستطيع الانتقاء الطبيعي أن يقوم بنفس الشيء، ولكن بسهولة أكبر بكثير من استغراق مثل هذا الوقت الطويل"(2).
أما عن الفرق بين الإنسان والطبيعية في الانتقاء الطبيعي، فيقول داروين " فالإنسان يستطيع أن يؤثر فقط على الصفات الخارجية والمرئية. أما الطبيعية... فلا يهمها شيء من الظاهر، إلاَّ فيما يتعلق بكونها مفيدة لأي كائن، وهي تستطيع التأثير على كل عضو داخلي، وعلى كل ظل من الاختلاف البدني، وعلى مجمل آليات الحياة، والإنسان ينتقي فقط لما فيه مصلحته، أما الطبيعة فتنتقي فقط لما فيه مصلحة الكائن الذي ترعاه... إن منتجات الطبيعة يجب أن تكون أكثر مصداقية في الطابع من منتجات الإنسان... إن الانتقاء الطبيعي يستطيع أن يؤثر فقط من خلال ومن أجل الخير لكل كائن"(3).
ويرى داروين أن العزل يجعل الانتقاء الطبيعي أبطأ، فيقول " فالانعزال سوف يوفر الوقت الكافي لأي ضرب جديد لكي يتحسن بمعدل أبطأ... فإذا كانت إحدى المساحات المنعزلة صغيرة جدًا، وذلك لكونها محاطة بحواجز، أو لتمتعها بظروف طبيعية غريبة جدًا، فإن العدد الإجمالي للقاطنين فيها سوف يكون صغيرًا جدًا، وهذا سوف يؤدي إلى التأخير في إنتاج أنواع جديد من خلال الانتقاء الطبيعي"(4).
يرى داروين أن الإنسان مارس الانتخاب الصناعي (التهجين) منذ زمن بعيد، وقد ناقش هذا الموضوع تحت عنوان " التمايز تحت تأثير التدجين " في الباب الأول من كتابه " أصل الأنواع " فقال داروين " فإنه من الصعب لنا أن نجد قبيلة، مهما بلغت درجة بدائيتها، لم تمارس تدجين الحيوانات، حتى ولو الكلاب على الأقل"(5) وقال داروين " أن الإنسان نجح عن طريق التدجين في الوصول إلى أنواع غير طبيعية... من الواجب افتراض أن هذا الإنسان النصف متمدين قد نجح ليس فقط في تدجين أنواع عديدة من الحمام بشكل شامل، ولكنه نجح أيضًا، إما قصدًا أو عن طريق الصدفة، في انتقاء أنواع غير طبيعية بشكل غير عادي"(6).
كما أستشهد داروين على ممارسة الإنسان للانتخاب الصناعي بالكتاب المقدَّس والتاريخ القديم فقال " ويبدو واضحًا في بعض فقرات سفر التكوين في التوراة أن لون الحيوانات الداجنة كان موضع عناية في هذه الفترة الممعنة في القدم، والسكان البدائيون يُقدِمون أحيانًا في وقتنا الحاضر على تهجين كلابهم مع الحيوانات الكلبية الوحشية، لتحسين السلالة، وقد قاموا بهذا الشيء من قبل، كما تشهد بهذا كتابات بليني... إن استيلاء الحيوانات الداجنة قد تم السهر عليه باهتمام في العهود الضاربة في القدم، وأنه مازال موضع عناية من أدنى درجات البداوة في البشر... فإن وراثة الخواص الجيدة أو السيئة هي شيء واضح جدًا"(7) فقد رأى داروين أن القاعدة العامة هي توريث الكائن صفاته لأبنائه، فقال " أي تمايز لا يتم توريثه لا يمثل لنا أية أهمية... وربما كانت الطريقة الصحيحة للإحاطة بالموضوع بأكمله، هي أن ننظر إلى وراثة كل صفة أيا كانت كقاعدة عامة، وإلى عدم توارثها على أساس أنها شذوذ عن هذه القاعدة"(8).
وأوضح داروين أن الانتخاب الصناعي اعتمد أساسا على الفروق الفردية، فقال " عندما نعقد مقارنة بين الأفراد التابعين لنفس الضرب... فإن إحدى النقاط الأولى التي صدمتنا هي أنها تختلف على وجه العموم عن بعضها بعضًا بشكل أكبر... وأقدم نباتاتنا المتعهدة، مثل القمح، مازالت تدر ضروبًا جديدة، وأقدم الحيوانات المدجَّنة مازالت قادرة على التحسن السريع أو التعديل (التكيُّف)"(9) وبسبب الفروق الفردية وضع المربين صفات معينة مطلوبة في الخراف أو الماشية، واستطاعوا التوصل إليها عن طريق الانتخاب الصناعي، فيقول داروين " فمن المؤكد أن العديد من المربين البارزين لدينا قد نجحوا في خلال فترة حياتية واحدة لأي منهم، في التعديل إلى حد كبير لسلالاتهم من الماشية والخراف... وقد صرَّح اللورد " سمرفيل " Lord Samerville بما صنعه المستولدون للخراف، وجاء في أقواله {يبدو وكأنهم قد رسموا بالطباشير على الحائط شكلًا مثاليًا بالنسبة إليهم، وقاموا بعد ذلك بإعطائه الوجود، وفي مقاطعة " ساكسوني " Saxsony فإن أهمية مبدأ الانتقاء فيما يتعلق بالخراف الأسبانية من نوع الميرينوس (غنم أسباني أبيض نفيس الصوف) شيء معترف به تمامًا، والرجال هناك يتبعونه كمهنة، فالخراف توضع على منضدة وتُدرس مثلما تُدرس لوحة بواسطة خبير مطلع، ويجري عمل ذلك ثلاث مرات على فترات تمتد كل منها إلى شهور، وفي كل مرة يتم إعطاء الخراف علامات ودرجات، وذلك حتى يمكنهم انتقاء أكثرها صلاحيَّة للتكاثر"(10).
يقول داروين أن " الانتقاء الجنسي... يعتمد على تنازع بين الأفراد التابعين لشق جنسي واحد، وهو عادة الذكور، من أجل الاستحواذ على الشق الجنسي الآخر، والنتيجة ليست هي الموت للمنافس الذي يفشل، ولكنها تنحصر في إنجاب القليل من الذراري أو عدم الإنجاب، ولهذا السبب فإن الانتقاء الجنسي يكون أقل صرامة من الانتقاء الطبيعي، وعادة فإن أكثر الذكور قوة، والذين هم الأفضل ملائمة لشغل أماكنهم في الطبيعة، سوف يتركون خلفهم معظم الذراري... إن أحد الأيائل بدون قرون أو ديك بدون شوكة في ساقه، سوف يكون لديهما فرصة ضئيلة لأن يتركا وراءهما العديد من الذراري... فذكور التماسيح الأمريكية وُصفت بأنها تتقاتل وتخور وتنقلب، ويخورون ويتقلَّبون مثل الهنود (الحمر) في رقصة الحرب، وذلك من أجل الاستحواذ على الإناث، وذكور أسماك السلمون قد تمت مشاهدتها وهي تصارع طوال اليوم... أما فيما بين الطيور، فإن المباراة غالبًا ما تأخذ شكلًا سلميًا، وجميع الذين قد اهتموا بهذا الموضوع يؤمنون بوجود أقصى درجات التنافس بين الذكور التابعة لكثير من الأنواع لجذب الإناث عن طريق الغناء... وهي تقوم كذلك بتقديم استعراضات غريبة أمام الإناث، التي تقف على مقربة كمشاهدات حتى تقوم في النهاية باختيار الشريك الأكثر جاذبية"(11).
وقد اعترض داروين على القائلين بأن الله خلق الطيور الجميلة والأسماك البديعة... إلخ. من أجل إمتاع الإنسان، وأرجع داروين هذا الجمال للانتقاء الجنسي فقال " أنا أعترف عن طيب خاطر بأن عددًا هائلًا من ذكور الحيوانات، وكذلك جميع طيورنا الفائقة الجمال، وبعض الأسماك والزواحف والحيوانات الثديية، وحشد من الفراشات الرائعة الألوان، قد صارت جميلة وذلك من أجل الجمال ذاته، ولكن هذا قد تم حدوثه من خلال الانتقاء الجنسي، وهذا يعني، عن طريق التفضيل المستمر من الإناث لأكثر الذكور جمالًا، وليس من أجل إمتاع الإنسان"(12).
أصدر " دوغلاس فوتويما " كتاب " بيولوجيا التطوُّر " وساق عدة أمثلة على حدوث التطوُّر بواسطة الانتقاء الطبيعي، ومن أشهر هذه الأمثلة " الإصطباغ الصناعي " فقبل الثورة الصناعية في مانشستر كان لحاء الأشجار فاتحًا فأعطى تمويهًا للفراشات البيضاء، بينما كان من السهل على الطيور اصطياد الفراشات السوداء، وهنا سادت الفراشات البيضاء. أما بعد الثورة الصناعية فقد صار لحاء الأشجار غامقًا نتيجة للتلوث، فانقلب الوضع وسادت الفراشات السوداء التي تستطيع أن تختفي عن الطيور، بينما تناقصت جدًا الفراشات البيضاء لأنه صارت صيدًا سهلًا للطيور.
_____
(1) أصل الأنواع ص 160.
(2) المرجع السابق ص 163.
(3) أصل الأنواع ص 164، 165.
(4) المرجع السابق ص 192.
(5) المرجع السابق ص 76.
(6) أصل الأنواع ص 84.
(7) أصل الأنواع ص 95، 96.
(8) المرجع السابق ص 70.
(9) المرجع السابق ص 62.
(10) أصل الأنواع ص 92.
(11) أصل الأنواع ص 170 - 172.
(12) المرجع السابق ص 325.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/225.html
تقصير الرابط:
tak.la/hy8mh45