ج: 1- سبق الإجابة على الجزء الأول من التساؤل بالتفصيل عند حديثنا عن عبارة حنة أم صموئيل التي قالت: "لأَنَّ لِلرَّبِّ أَعْمِدَةَ الأَرْضِ، وَقَدْ وَضَعَ عَلَيْهَا الْمَسْكُونَةَ" (1صم 2: 8)، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ9 س 1076.
2- قال الرب لأيوب عن الأرض: "عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا؟ أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا" (أي 38: 6) فهو يشير إلى استقرار الأرض وثبات اتزانها، فكلمة " قَرَّتْ " أي استقرت، و"حَجَرَ زَاوِيَتِهَا " إشارة لتماسكها، وفي هذا إشارة للقوانين الطبيعية التي تحفظ دوران الأرض في فَلَك لا تتعداه، تتساوى فيه قوة الجاذبية الأرضية وقوة الطرد المركزي. وما نطق به أيوب من قبل بالروح القدس عندما قال: "وَيُعَلِّقُ الأَرْضَ عَلَى لاَ شَيْءٍ" (أي 26: 7) كان يشير إلى أن الأرض كوكب يسبح في الفضاء مُعلّق على لا شيء... فهذه حقيقة وتلك حقيقة ولا تعارض بين الحقيقتين.
وفي حديث الرب مع أيوب هنا يشبه الأرض بمبنى شاهق، فيذكر بعض المفردات الخاصة بالمباني مثل المقياس، والمطمار، والقواعد، وحجر الزاوية، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ويقول "لويس صليب": "هناك حقيقتان خاصتان بالأرض.
أولهما: الثبات والاستقرار في الوقت الحاضر وذلك ما يشار هنا بالقواعد والأسس.
وثانيهما: وتجدها أيضًا مذكورة في نفس هذا السفر هي أن الأرض معلَّقة على لا شيء (أي 26: 7). وهذه الحقيقة الثانية لم تخطر على ذهن أحد من البشر سوى مؤخرًا نسبيًا، وحتى العلماء لم يتوصلوا إلى معرفة هذه الحقيقة إلَّا في العصور الحديثة. ولكن ها هي تسبقهم في الكتاب المُقدَّس. إن الأرض معلَّقة على لا شيء، وهي لذلك تتمتع بثبات عظيم وانتظام رائع دقيق في مدارها، حتى لكأنها تبدو أن لها الأساسات العميقة الراسخة. ولكنها بهذا وذاك تبين عظمة قدرة الله، لأنها وإن كانت معلَّقة على لا شيء من المخلوق، فإنها معلَّقة تعليقًا كاملًا على قوة الخالق...
يبدأ الرب بالأرض، مسكن الإنسان، أفيعلم أيوب تاريخ مكان سكناه؟ أين كان يوم وضع المهندس العظيم أُسس الأرض... تستطيع معارف اليوم أن تتحدث إلينا بأسلوب علمي عن السديم وعن النظام الشمسي، عن الجاذبية ونواميس الجاذبية، وتستطيع أن تفسر لنا أن التبادل الحركي القائم بين هذه النواميس قد منح الأرض شكلها وعلاقتها الثابتة بالأجرام السماوية وتستطيع أن تفسر لنا أنه بواسطة قوانين التماسك والتزاوج أو التقارب الكيميائي، التصقت معًا ذرات الأرض وتقاربت. على أن وجود القانون يفترض وجود مشرّع. مانح للقانون. فمن ذا الذي أنشأ هذه القوانين؟ وكيف تعمل جميعًا دون توقف؟"(1).
3- يقول " القديس يوحنا الذهبي الفم": "فماذا تقول يا أيوب؟ إنه لأجلك أقمتُ الأرض بمثل هذه العناية، فهل سأهملك وأنا لأجلك خلقتُ الأرض! لهذا لم يبرز الله مهارة الخلق والتوافق بين التحقيق والتجهيز (للخلق)، لكن بدءًا من الأرض والسماء أظهر باستفاضة أنه إن كان الكون ينعم لأجلك بمثل هذا الاهتمام العظيم فكم بالأولى أنت (يا أيوب).
أين كنتَ حيث أسَّستُ الأرض؟
قال الرب هذا موجهًا كلامه لمن يريدون أن يحاسبونه ويطالبونه بتفسير للأحداث دون أن يتفرَّسوا عظمة حكمته.
(يقول الرب) من نصحني؟ من أشار عليَّ؟ من أتى لمساعدتي؟
أنه لم يقل " عندما خلقتُ " بل قال " عندما أسَّستُ"، وعلى ذلك فحتى ثبات الأرض كان دليلًا على مهارة عظيمة في الصنع، إذ أن لا قاعدة ولا أساس أو عضد لكتلتها...
قال الرب: من ثبت مقاييسها؟ هل تعرفه؟ أو من مدَّ عليها مطمارًا؟
إن أسرار الله هي بالحق فائقة الوصف عن أن تعرفها...
"ومن ثبَّت مقاييسها؟ "
لذلك فإن مقاييسها لم تُؤخذ اعتباطًا ولا صدفة، بل الله هو الذي ثبتها آخذًا في الاعتبار هدفًا متناسقًا، وسالكًا كمهندس عظيم، لأنه كان يلزم أن تكون الأرض بهذا الاتساع بلا زيادة ولا نقصان...
وما كانت الأرض ستقوم بخلاف الطريقة التي صنعها الله عليها. ليس (معنى هذا) أن الله أخذ هذه المقاييس أو أنه أمسك حبل (وقاس به)، لكنه يريد القول أنه كان مستحيلًا أيضًا أخذ القياس أو استخدام الحبال لقياسها، ولكنها خُلقت بنفس الدقة كما لو استخدمنا هذه الوسائل. لكن الله أظهر لنا حكمته من خلال الصور المألوفة لنا.
إنه ابتدأ بالقول أنها معلَّقة. أية قواعد تسندها؟ ومَرّة أخرى أنه لا يريد القول أن هذه القواعد موجودة، بل يريد القول أن الأرض وُجِدت هكذا مقامة بهذه الصلابة كما لو كانت توجد قواعد تسندها مثبَّتة من فوق. ولأن القاعدة تُمسك بكتلتها معلَّقة في الهواء، وما هو معلَّق في الهواء ليس بثابت. لذلك استخدم التعبير " تثبَّتت".
"من وضع حجر زاويتها"
إنها متماسكة أيضًا بمتانة كما على أساسات، مستقرة في أمان تام على أساسها بإرادة الله " لأن في يده توجد كل أطراف الأرض" (مز 95: 4)"(2).
4- يقول " نيافة الأنبا إيساك " الأسقف العام: "فالقشرة الأرضية ليست طبيعة عشوائية بل هي خلق وإبداع موزون بالموازين أنه هو الرب الذي هندس تكوين الأرض وكأنه مدَّ عليها الخيط الهندسي كي تنتظم الأرض ضمن أفلاك الله، لأن وزن الأرض لو زاد عن كتلتها الحالية لبعدت عن الشمس وتأثر مناخها، ولو نقص وزن الأرض عن كتلتها الحالية لانجذبت أكثر في مدار قريب من الشمس حيث ترتفع درجات حرارتها جدًا فيهلك كل كائن حي عليها... فهل لإنسان أن يغير من كتلة الأرض؟
"عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا"... أنها القوة الطاردة المركزية التي بين الشمس ودوران الأرض حولها، وتعادل هذه القوة قوة الجاذبية بين الشمس والأرض. إنه إعجاز الخالق الذي يستحيل أن يبلغ إليه إنسان. ثم عدم امتزاج اليابسة مع المياه مع كونهما يمتزجان في الطبيعة بسهولة... ما هذا يا رب! ما هذه الروعة في الخلق! لو تفطَّن الإنسان لصمت أمام جلالك وكفَّ عن الجعجعة والثرثرة كأيوب لأنك عظيم في خليقتك بحق... هذه القشرة الأرضية ما هي إلَّا غلاف لصخور ومعادن منصهرة تصل إلى درجة الغليان في باطن الأرض... وقد تجد هذه الحمم النارية نقطة ضعف في القشرة الأرضية، فتخرج بقوة هائلة في براكين. فمن الذي يهدئ البركان بعد ثورته ويقوي نقطة الضعف في القشرة الأرضية التي هي من تراب ورماد! فيخمد البركان وتنسد فوهته! هل يستطيع إنسان أن يفعل هذا؟ أيها الإنسان، تأمل في عظمة الخلق، واعرف ضعفك وتواضع أمام إلهك..."(3).
_____
(1) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 184-186.
(2) سفر أيوب - إصدار مكتبة المحبة ص 196-198.
(3) تساؤلات الله في سفري أيوب والمزامير ص 65، 66.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1607.html
تقصير الرابط:
tak.la/r2fpkz6