ج: 1- قال أليهو: "حَتَّى بَلَّغُوا إِلَيْهِ صُرَاخَ الْمِسْكِينِ، فَسَمِعَ زَعْقَةَ الْبَائِسِينَ. إِذَا هُوَ سَكَّنَ، فَمَنْ يَشْغَبُ؟ وَإِذَا حَجَبَ وَجْهَهُ، فَمَنْ يَرَاهُ" (أي 34: 28، 29)... فعمن يتحدَّث أليهو..؟ أنه يتحدَّث عن الله، إذًا أين هو موضع الخلاف..؟ موضع الخلاف في فعل " سَكَّنَ " في الآية، والنص واضح وصريح إذ يقول: "إِذَا هُوَ سَكَّنَ، فَمَنْ يَشْغَبُ؟ " أي عندما يسكّن الله الأوضاع، ويهب هدوء وسكينة، فمن يستطيع أن يثير متاعب أو شغبًا..؟! بالقطع لا أحد يستطيع. أمَّا الناقد فقد قرأ الفعل " سَكَّنَ " على أنه " سَكَنَ"، وبالتالي فهم المعنى أنه عندما يَسكُنْ الله، أي عندما يصمت ويسكت، فمن يَشْغَبُ؟! وبذلك وصل إلى نتيجة خطيرة خاطئة وهي أنه لو ظل الله ساكنًا فلا يوجد من يثير الشغب. إذًا مثير الشغب الأول هو الله، وبالطبع فإن ما بُني على باطل فهو باطل... أليس هذا يدعونا للتدقيق في قراءة الكتاب حتى نفهم المعنى الصحيح، لأن تغيير التشكيل يقلب المعنى للنقيض، فشتّان بين سكَّن، وسَكَنَ، سكَّن أي أنه هو الذي سكَّن، أما سَكَنَ أي أنه هو الذي سَكَنَ وصمتَ وسكتَ.
فعندما يسمع الله لصراخ وتنهدات المظلومين يأمر رياح العنف التي تهب عليهم فتكفَّ، ويأمر أمواج الاضطهادات الثائرة ضدهم أن تهدأ فتطيع، فيسود السلام والهدوء والسكينة، ولا أحد يستطيع أن يعكر صفو هذا السلام الإلهي، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فأليهو يريد أن يؤكد لأيوب أن كل الخيوط هي في يد الله القدير، ضابط الكل، متى أراد سكَّن الزوابع والرياح والأعاصير، ومتى حجب وجهه حلَّت المصائب والنكبات، وأيضًا أراد أليهو أن يخبر أيوب بأنه لو مدَّ الله يده وسكَّن الأمور المحيطة بأيوب فإن كل الأمور ستؤول للخير وتُرفَع عنه كل النكبات وتحل عوضًا عنها البركات.
2- يقول " متى هنري": "إن غضب كل العالم لا يمكن أن يزعج من يسكّنهم الله بابتسامته " إِذَا هُوَ سَكَّنَ فَمَنْ يَشْغَبُ" (أي 34: 29). هذا تحدٍ لكل قوات الجحيم والأرض التي تزعج من يتكلَّم الله لهم بالسلام الذي يخلقه لهم. إذا أعطى الله سلامًا خارجيًا لأية أُمة فأنه يضمن بقاء ما يمنحه، ولا يسمح لأعدائها بإزعاجها. وإذا أعطى الله سلامًا داخليًا لأي إنسان فلا هجمات الشيطان ولا نكبات الدهر الحاضر، ولا قبضات الموت نفسه تقدر أن تزعجه. من ذا الذي يقدر أن يزعج مَن امتلأت قلوبهم بسلام الله الذي يفوق كل عقل (في 4: 7)؟
وابتسامات كل العالم لا تقدر أن تسكّن من يزعجهم الله بغضبه، لأنه إذا حجب وجهه ولم يرضَ عن أي إنسان فمن يرده؟ أي من يستطيع أن يتطلَّع إلى وجه الله حال غضبه، فيحتمل غضبه، أو ينجو منه؟ من يقدر أن يجعله يُظهِر وجهه عندما يعزم أن يحجبه، أو من يقدر أن ينظر من خلال الظلام والسحب التي تحيط به؟! ومن يقدر أن يَتَطلَّع إلى خاطئ منزعج بحيث يسكّن روحه..؟ لا يقدر أحد سوى الله أن يسكّن انزعاج الإنسان " لاَ! يُخَلِّصْكِ الرَّبُّ. مِنْ أَيْنَ أُخَلِّصُكِ؟" (2مل 6: 27)؟ إن بعث الله خوفه في الضمير الأثيم فلا تستطيع كل مسرات العالم أن تُسكّنه " كَخَلّ عَلَى نَطْرُونٍ، مَنْ يُغَنّي أَغَانِيَّ لِقَلْبٍ كَئِيبٍ" (أم 25: 20)"(1).
3- بالرغم من أن الله يستطيع أن يسكّن الأمور ويهدئها، إلاَّ أنه أحيانًا يترك المشاغب الفاجر ليؤدب الخطاة، فيقول " فرانسيس أندرسون " تعليقًا على الأعداد من 29: "قد وجد البعض فيها فكرة أكثر قتامة وإزعاجًا فحتى لو كان الله على الحياد تاركًا الحبل على الغارب للشر فمن يدين؟ وإذا حجب وجهه فمن يستطيع إجباره على الظهور؟ والتفسير الوحيد الممكن هو الذي تقدمه (ترجمة) الـ(NEB) وهو أنه يُملّك الفاجر (أي 34: 30) ليعاقب (الأمة العنيدة) وقد استطاع الأنبياء تبني فكرة أن آشور هو (قضيب غضب الله) (إش 10: 5)، وكان هذا نفس تفكير حبقوق بالنسبة للبابليين"(2).
فالله هو العامل في التاريخ، ويقول " ى. س. ب هيفينور": "يتحرك أليهو في تأمل عام لعمل الله في التاريخ، إلى حالة أيوب... في القول: "إِذَا هُوَ سَكَّنَ فَمَنْ يَشْغَبُ" (أي 34: 29)، ويظهر أن مغزى العدو سواء كان أمم أو أفراد يمضون أيامًا وهم يتمتعون بهدوء بحضرة الله، أو يمضون أيامًا وهم لا يرون وجهه في وسط المحن، ينبغي أن يتخذوا مسلك الخضوع بدون تذمر. أنه يجري عدله لخير الناس"(3).
_____
(1) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير سفر أيوب جـ3 ص 132، 133.
(2) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 293.
(3) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ3 ص 55.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1599.html
تقصير الرابط:
tak.la/9px8jyk