ج: 1- كان أليشع يمر على مدينة شونم " وَكَانَتْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ عَظِيمَةٌ، فَأَمْسَكَتْهُ لِيَأْكُلَ خُبْزًا. وَكَانَ كُلَّمَا عَبَرَ يَمِيلُ إِلَى هُنَاكَ لِيَأْكُلَ خُبْزًا. فَقَالَتْ لِرَجُلِهَا: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلَ اللهِ، مُقَدَّسٌ... فَلْنَعْمَلْ عُلِّيَّةً عَلَى الْحَائِطِ صَغِيرَةً... حَتَّى إِذَا جَاءَ إِلَيْنا يَمِيلُ إِلَيْهَا" (2مل 4: 8 - 10).. أنظر وتأمل في أقوال الكتاب أنه يصف تلك المرأة أنها امرأة عظيمة، ونحن تعودنا دائمًا وأبدًا الصدق التام من كتابنا المقدَّس، فعندما أخطأ داود النبي العظيم لم يتغافل الكتاب هذا، بل ذكر ذلك نهارًا جهارًا عبرة للأجيال بدون تهوين ولا مواربة. إذًا لو كانت هذه المرأة خاطئة لكان من المستحيل أن يذكر الكتاب أنها " امْرَأَةٌ عَظِيمَةٌ". كما شهد الكتاب لرجل الله على لسان هذه السيدة العظيمة إذ وصفته: "أَنَّهُ رَجُلَ اللهِ، مُقَدَّسٌ".. ولا أدري كيف يشطح خيال الناقد إلى أنه يتصوَّر أن رجل الله القديس يزني مع امرأة تقيم مع زوجها؟!!
كان أليشع النبي يتردد على هذه العليَّة، ولم يكن بمفرده، إنما كان تلميذه جيحزي يصحبه أينما توجه، وعندما أراد أليشع أن يرد شيئًا من جميل هذه السيدة العظيمة " فَقَالَ لِجِيحْزِي غُلاَمِهِ: ادْعُ هذِهِ الشُّونَمِيَّةَ... فَدَعَاهَا، فَوَقَفَتْ أَمَامَهُ. فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهَا: هُوَذَا قَدِ انْزَعَجْتِ بِسَبَبِنَا كُلَّ هذَا الانْزِعَاجِ، فَمَاذَا يُصْنَعُ لَكِ؟ هَلْ لَكِ مَا يُتَكَلَّمُ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ أَوْ إِلَى رَئِيسِ الْجَيْشِ؟ فَقَالتْ: إِنَّما أَنَا سَاكِنَةٌ فِي وَسْطِ شَعْبِي" (2مل 4: 12، 13).. تأمل في أدب رجل الله الذي خاطب هذه المرأة عن طريق تلميذه، وأدب هذه المرأة التي وقفت أمام باب العليَّة ولم تدخل، وأخبرت أليشع أنها تعيش بأمان وسط شعبها وليس لها أي طلبة، حتى أن جيحزي أخبره قائلًا " لَيْسَ لَهَا ابْنٌ، وَرَجُلُهَا قَدْ شَاخَ. فَقَالَ: ادْعُهَا. فَدَعَاهَا، فَوَقَفَتْ فِي الْبَابِ. فَقَالَ: فِي هذَا الْمِيعَادِ نَحْوَ زَمَانِ الْحَيَاةِ تَحْتَضِنِينَ ابْنًا" (2مل 4: 14 - 16).. تأمل ثانية قول الكتاب " فَوَقَفَتْ فِي الْبَابِ " وكان للعليَّة سلم خارجي يفضي إلى خارج المنزل.
2- لم تدع هذه المرأة الشونمية أليشع أبًا، فعندما أخبرها أليشع أن الله سيرزقها ابنًا "قالت لا يا سيدي رجل الله" (2مل 4: 16) فدعته سيدها ولم تدعه أبًا، وعندما سقط الفأس من أحد بني الأنبياء " صَرَخَ وَقَالَ: آهِ يَا سَيِّدِي! لأَنَّهُ عَارِيَةٌ " (2مل 6: 5). أما الذي دعى أليشع أبًا فهو يوآش ملك إسرائيل وبكى على وجهه وقال " يَا أَبِي، يَا أَبِي، يَا مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا" (2مل 13: 14) والأبوة هنا هي أبوة روحية، وعندما دعا يوآش أليشع أبًا فليس معنى هذا أن أليشع أبوه بالجسد.
3- ليخز ويخجل الذي يدعو رجل الله القديس النبي المتعفف أليشع تلميذ إيليا الناري بأنه كان مُصابًا بالشذوذ الجنسي، ويعتمد في هذا على حجة واهية وهي احتضان أليشع لجثمان الصبي الميت... وهل هذا هو الشذوذ في نظره..؟!! لم يدرس الموضوع بروح العقل، لم يتأمل أن أليشع لم يشأ في البداية أن يذهب لهذا الصبي إنما أراد أن يرسل تلميذه جيحزي بعكازه، ولكن المرأة العظيمة الشونمية لم تتركه، فذهب إلى الصبي الميت وتلميذه يسبقه فوضع عكاز أليشع على الصبي ولم يقم، فدخل أليشع إلى العليَّة حيث وضعت الأم طفلها الذي فارق الحياة على سرير رجل الله " فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسَيْهِمَا كِلَيْهِمَا، وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ. ثُمَّ صَعِدَ وَاضْطَجَعَ فَوْقَ الصَّبِيِّ وَوَضَعَ فَمَهُ عَلَى فَمِهِ، وَعَيْنَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَيَدَيْهِ عَلَى يَدَيْهِ، وَتَمَدَّدَ عَلَيْهِ فَسَخُنَ جَسَدُ الْوَلَدِ" (2مل 4: 33، 34) فصلاة رجل الله توضح تمامًا أن الله حاضر في المشهد.
لقد فعل أليشع ما فعله معلمه إيليا من قبل مع ابن أرملة صرفة صيدا عندما فارق الحياة " وَأَخَذَهُ مِنْ حِضْنِهَا وَصَعِدَ بِهِ إِلَى الْعُلِّيَّةِ الَّتِي كَانَ مُقِيمًا بِهَا، وَأَضْجَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي... فَتَمَدَّدَ عَلَى الْوَلَدِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: يَا رَبُّ إِلهِي، لِتَرْجعْ نَفْسُ هذَا الْوَلَدِ إِلَى جَوْفِهِ" (1مل 17: 19 - 21).. فهل سقط إيليا النبي أيضًا في الشذوذ الجنسي..؟!! وعندما سقط أفتيخوس من الطاقة "مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى أَسْفَلُ، وَحُمِلَ مَيِّتًا. فَنَزَلَ بُولُسُ وَوَقَعَ عَلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ قَائِلًا: لاَ تَضْطَرِبُوا! لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ... وَأَتَوْا بِالْفَتَى حَيًّا، وَتَعَزَّوْا تَعْزِيَةً لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ" (أع 20: 9 - 12).. فهل سقط بولس الرسول أيضًا في الشذوذ الجنسي..؟!! تُرى أية محبة تلك التي جعلت أليشع يحتضن هذا الميت، بينما كانت الشريعة تعتبر أن لمس الميت ينجس الإنسان. إنما يمثل خدمة العهد الجديد، ويرمز للسيد المسيح الذي لمس الأبرص فأبرئه من برصه، وأمسك بيد ابنة يايرس وأنهضها من الموت.
أن أليشع النبي المتعفَّف كما أقام ابن المرأة الشونمية وهو حي على الأرض، فإن عظامه أقامت ميتًا آخر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى... عندما حمل بعض رجال إسرائيل ميتًا إلى مثواه الأخير، وإذا غزاة من موآب يهاجمون الأرض، فماذا فعل هؤلاء الرجال..؟ لقد " طَرَحُوا الرَّجُلَ فِي قَبْرِ أليشع، فَلَمَّا نَزَلَ الرَّجُلُ وَمَسَّ عِظَامَ أليشع عَاشَ وَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ" (2مل 13: 21).. فهل يحتاج أليشع لشهادة أي إنسان، بعد أن شهدت له السماء في حياته وبعد مماته. ويقول " القمص تادرس يعقوب: "بموت الصبي لم يتمجد الله فحسب، ولا نال أليشع كرامة في الرب فحسب، وإنما تزكَّت المرأة الشونمية، فظهر إيمانها بالله القادر أن يقيم من الأموات. عند موت ابنها لم تطلب تعزية من رجلها وأهل بيتها، ولا تسلَّل اليأس إلى قلبها، كما لم تفكر في تكفينه ودفنه، إنما حملته إلى سرير النبي، ووثقت في عمل الله خلاله"(2).
ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "جاهد أليشع جهادًا عنيفًا لأن الأعمال العظيمة تحتاج إلى جهاد وصبر ومثابرة ولجاجة في الصلاة والتوسل إلى الرب:
أ - إذ دخل البيت ووجد الصبي ميتًا حقًا (أَغْلَقَ الْبَابَ) على نفسه وعلى الصبي لكي ينفرد مع الرب في صلواته وتضرعاته.
ب - وكان حكيمًا جدًا لأن أول عمل قام به أنه (صَلَّى إِلَى الرَّبِّ) لأنه من يقدر أن يحقق المعجزة إلاَّ الرب وحده.
جـ- ثم صعد إلى السرير واضطجع على الصبي، و(تَمَدَّدَ عَلَيْهِ).. فعل ذلك لأنه عرف أنه هو نفسه فيه روح الرب ومواهبه، والقوة التي فيه هي من الرب... الرب وحده هو الحياة، ومصدر الحياة وبه " نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أع 17: 28) فسخن جسد الصبي بتمدده عليه...
د - عاد (وتمشى في البيت هنا وهناك).. ولاشك في أنه وهو يتمشى كان يفكر فيما عساه أن يفعل أيضًا، وكان يصارع في صلوات سرية حارة إلى الرب لكي لا يخيب رجاءه.
هـ- وعاد (وتمدَّد على الصبي) فتحنن الرب على أليشع ونظر إلي إيمانه وصبره فعطس الولد، ثم (فتح عينيه) دليلًا على أن الحياة قد دبت فيه من جديد... إن عطسْ الولد يعني أن تنفسه قد عاد إليه وأن الدورة الدموية قد بدأت تعمل وقلبه عاد لينبض ويؤدي أعماله، وتفتيح عينيه يشير إلى أنه قد رجع لكي يستقبل حياته ويستأنفها"(3).
_____
(1) ليوتاكسل - التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 439.
(2) تفسير سفر الملوك الثاني ص 141.
(3) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر الملوك الثاني ص 64.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1327.html
تقصير الرابط:
tak.la/8z6t5a8