ويقول " محمد قاسم محمد": "سبق ذكر أن شاول أحب داود، وكان داود حامل سلاحه ويضرب له على العود ليطيب قلبه، فكيف يسأل عن اسمه كأنه لا يعرفه"(2).
ويقول " زينون كوسيدوفسكي": "إذا ما حاولنا الاستفسار عن كيفية وصول داود إلى قصر شاول، فإننا سنجد أنفسنا في وضع صعب، فالتوراة تقدم فرضيتين مختلفتين تمامًا، فالإصحاح السادس عشر من سفر صموئيل الأول يقول بأن داود أُحضر إلى قصر شاول لأنه كان عازف عود ممتاز، وقد أستحوذ على قلب الملك بعزفه، وفي الوقت نفسه يخبرنا الإصحاح السابع عشر من نفس السفر بأن داود أثار انتباه الملك له بسبب انتصاره على جوليات، فقاتل جوليات راعٍ مجهول، أمر شاول بإحضاره إليه وسأله... إذًا شاول لم يعرف داود سابقًا"(3).
ويقول " ليوتاكسل": "ما هذا اللغو الممل؟ أين يضع هذا "المُلهَم الإلهي" للتوراة عقله؟ ففي الإصحاح السادس عشر كان قد روى لنا بالتفصيل الممل، أن شاول طلب أن يُعزَف له على القيثارة لتهدئة نفسه المتوترة دائمًا، فجاء أحد خدمه بالشخص المطلوب، ولم يكن ذلك العازف سوى داود بن يسى هذا نفسه، وقد عرف شاول عائلته عندئذ، بل وأرسل شاول يطلب من العجوز يسَّى أن يطلق الغلام له، لأنه أُعجب كثيرًا به. وقالت " الحمامة " لنا أيضًا، أن داود غالبًا ما كان يترك شاول ويأتي إلى بيت لحم. وفجأة لم يتعرَّف شاول وأبنير، أو أي من خدم قصر الملك على داود الذي خرج لقتال جليات؟! هكذا. إذًا، بكل بساطة يتحوَّل موسيقي الملك وحامل سلاحه إلى رجل مجهول لجميعهم؟ أو ينبغي علينا أن نفترض أن "الروح القدَّس" كان ثملًا عندما لقَّن هذا الإصحاح..؟ أضف إلى هذا أن صداقة قوية نشأت بين عازف القيثارة ويوناثان ابن شاول، ومع ذلك لم يتعرَّف يوناثان على داود"(4).
وقال " فولتير": "كيف جهل شاول من هو داود ؟ وكيف خفى عليه ضارب كنارته وحامل سلاحه؟ فنحن لا نرى وجهًا لحل هذه المعضلة"(5).
ج: 1- يمكن تتبع تعرُف شاول على داود كالآتي:
أ - كان اللقاء الأول بين شاول وداود، عندما أحضر عبيد شاول داود ليضرب على العود لشاول حتى تهدأ نفسه، وإذ نجح داود في مهمته هذه جعله شاول واحدًا من الذين يحملون سلاحه: "فجاء داود إلى شاول ووقف أمامه فأحبه جدًا وكان له حامل سلاح" (1صم 16: 21).
ب - طلب شاول من يسَّى أن يظل داود في القصر الملكي: "فأرسل شاول إلى يسَّى يقول ليقف داود أمامي لأنه وجد نعمة في عينيَّ" (1صم 16: 21).
جـ- لم يظل داود في مقر شاول بصفة مستمرة، بل كان يعود إلى بيت لحم ليرعى غنم أبيه، ومتى تعرَّض شاول لمتاعب الروح الرديء كان داود يسرع إليه ويضرب إليه على العود فيرتاح شاول ويطيب: "وأما داود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم" (1صم 7: 15).
د- يبدو أن داود استغل فرصة تحسن ظروف شاول النفسية وأطال المكوث في بيت لحم، وخلال هذه الفترة قد تكون هيئته قد تغيرَّت، والشخص في فترة الشباب يتغير شكله من عام إلى عام، أضف إلى هذا عدم استقرار ظروف شاول النفسية عندما كان داود قريبًا منه، وأيضًا لم يكن داود هو حامل سلاحه الوحيد، بل هو واحد من مجموعة " وكان له حامل سلاح " وإن كان يوآب له عشرة غلمان يحملون سلاحه فكم وكم يحملون سلاح الملك شاول..؟! وكان داود واحد من عدد ضخم من الذين التقوا بشاول فالكل يعرف الملك، ولكن الملك لا يعرف الكل، وإن كان شاول قد تعرَّف عليه في اللقاء الأول وأحبه، فاضطرابه النفسي ربما لم يساعده على استمرار هذه العلاقة، وأيضًا كان شاول يحصر كل تركيزه في منظر جليات وقوته، ذاك الكابوس المُرعب، وهل ستنجح مهمة هذا الشاب الحدث..؟! وعندما انتصر داود وأتى برأس جليات لم يكن شاول مصدقًا نفسه من الفرحة... ولهذا لم يتعرَّف شاول على داود.
هـ- كان "أبنير بن نير" رئيس جيش إسرائيل، وما أكثر مشاغله، فلم يجذب انتباهه فتى موسيقار في قصر الملك الذي يضج بالناس، ولذلك عندما سأله شاول عن أسرة هذا الفتى قال أنه لا يعرف.
2- من المُحتمل أن شاول عرف داود، ولكنه قد نسى ابن من هو؟ وإذ أراد أن يضمه إلى صفوفه بصورة أقوى، بل وضع في قلبه أن يزوّجه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرًّا في إسرائيل فلا يدفع الضرائب المفروضة على بقية الشعب، ولذلك سأل عن أسرة هذا الشاب الحدث: "ولما رأى شاول داود خارجًا للقاء الفلسطيني قال لأبنير رئيس الجيش ابن من هذا الغلام يا أبنير. فقال أبنير وحياتك أيها الملك لست أعلم... ولما رجع داود من قتل الفلسطيني أخذه أبنير وأحضره أمام شاول ورأس الفلسطيني بيده. قال له شاول ابن من أنت يا غلام. فقال داود ابن عبدك يسَّى البيتلحمي" (1صم 17: 55 - 57).
3- يقول " المطران يوسف الدبس": "قال القديس أفرآم جهبذ الكنيسة السريانية (في تفسيره سفر الملوك الأول مجلد (1) من كتبه السريانية المطبوعة في رومه صفحة 370): {إن شاول الملك كان يعرف راعي الغنم الذي في بيت لحم المعرفة الكافية، وكان قد قرَّبه إليه، وجعله حامل سلاحه، وضارب كنارته على أن شجاعة داود قد أذهلته وزادته اعتبارًا بعينية، وكان وعد بأنه يزوّج ابنته بمن قهر جليات، دام الاستقصاء الجهيد في نسب من كان مزمعًا أن يصاهره كما يفعل كل أب فَطِن صالح. ولذا كلَّف أبنير بأن يسأل عنه وهذا أمر بديهي وعلى غاية من الصواب والسداد، ولعله أيضًا فكر أنه هو الذي سوف يُخلِفه كما كان صموئيل قال له}.
وقال تاودوريطوس (في خطبة 43 في سفر الملوك الأول): {كيف لم يعرف شاول داود؟ فيُجاب بأحد أمرين إما أن الداء الذي يعتريه لم يكن يمكنه من عرفان من يضرب له بالكنارة، أما أن حسده له جعله يدقق بالاستقصاء عنه من أين هو وابن من هو؟}. وقال كلمت (في معجم الكتاب في كلمة داود): {أن داود كان قد ترك شاول من مدة فتبدَّل منظره وصوته وقامته. وكان يقوم أمامه بملابس ضارب الكنَّارة أو جندي يحمل سلاح الملك، فرآه عند محاربته جليات رجلًا بأثواب راعي غنم، فخُفي عليه هذا وقد خلت أكثر نسخ الترجمة السبعينية من الآيات المنبئة بسؤال شاول عن داود وإن وُجدت في بعضها وفي النص العبراني وغيره من الترجمات}"(6).
4- يقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "ليس غريبًا أن ينسى الملك شاول داود:
(1) الذي لم يكن إلاَّ فتى عوادًا من عامة الشعب.
(2) ولقد مرَّ بنا في (ع 15) أن داود كان يذهب أحيانًا ليضرب العود لشاول إذا احتاج إليه الأمر ثم يعود إلى بيت لحم ليرعى غنم أبيه، ويظهر أن حالة الملك قد تحسنت إلى حد ما وغاب داود عنه مدة بلغ فيها سن الشباب ونمت لحيته وطالت قامته وتغيرت هيئته فلم يعرفه الملك ولا أبنير.
(3) فضلًا على ذلك فإن مهام الملك الكثيرة التي كانت تشغل عقله، وربما أثر الروح الرديء فيه فأضعف ذاكرته إلى حد ما، وانشغاله بالحرب، وبمشكلة جليات الذي كان يتحداهم كل هذا كان كفيلًا جدًا بعدم معرفة الملك لداود.
وإجابة أبنير (وحياتك أيها الملك لست أعلم) لأنه يتعذر فعلًا على رجل مثل أبنير قائد لجميع جيوش إسرائيل وتحت يده عشرات الألوف من الشبان أن يهتم بمعرفة فتى عواد وحتى مع معرفته سابقًا فإن نمو الفتى وتغيُّر هيئته وانشغال أبنير بأمور الحروب الخطيرة كما ذكرنا كانت كافية بأن تجعله ينساه... ويظهر أن قلق أبنير من أجل المعركة بين داود وجليات وتخوفه من انتصار ذلك الجبار على داود شغلاه عن أن يسأل عمن هو وابن من هو، وإذ غلب داود خصمه وقتله وقطع رأسه، عاد به مفتخرًا مسرورًا، وجاء به ليقدمه إلى الملك بنفسه ومعه رأس ذلك الجبار في يده.
كان فرح شاول به عظيمًا وسأله: (ابن من أنتَ يا غلام؟).. وأجاب داود بأدب واتضاع (ابن عبدك يسَّى البيتلحمي) ولا نعرف إن كان شاول وأبنير قد ذكرا أنه ذلك الفتى القروي الذي كان يضرب بالعود للملك أم لا. في الغالب لم يذكرا ذلك"(7).
5- قد يتساءل البعض كيف وصل داود إلى مرحلة النضج ولم يقدر أن يرتدي الملابس العسكرية..؟ ذلك لأنه تعوَّد الانطلاق في البرية، ولم يعتاد على ارتداء هذا الزي العسكري، فشعر أن هذا الزي يحد حركته من جانب، ومن الجانب الآخر كان إيمانه بالله قويًا، فكان واثقًا من حماية الله له، فلم يجد هناك حاجة لهذه الملابس العسكرية: "وأَلبس شاول داود ثيابه وجعل خوذة من نحاس على رأسه وأَلبسه درعًا. فتقلد داود بسيفه فوق ثيابه وعزم أن يمشي لأنه لم يكن قد جرَّب. فقال داود لشاول لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها. ونزعها داود عنه" (1صم 17: 38، 39). بل أن كون داود ارتدى ملابس شاول فهذا دليل قوي على أن داود كان شابًا حدثًا وليس فتى صغير، أي أن عمره كان يقارب العشرين، وأيضًا يوناثان تعرَّف على داود بعد قتل جليات وبعد تعرُّف شاول عليه: "وكان لما فرغ من الكلام مع شاول أن نفس يوناثان تعلّقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه" (1صم 18: 1) وليس الموقف كما صوَّر ليوتاكسل أن يوناثان كان صديقًا لداود منذ أن دخل للقصر وفي ساحة المعركة لم يتعرف عليه.
_____
(1) البهريز جـ 1 س393.
(2) التناقض في تواريخ وأحداث التوراة ص 371.
(3) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 283.
(4) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 306، 307.
(5) أورده المطران يوسف الدبس - تاريخ الشعوب المشرقية في الدين والسياسة والاجتماع جـ 2 ص 249.
(6) تاريخ الشعوب المشرقية في الدين والسياسة والاجتماع جـ 2 ص 249، 250.
(7) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الأول ص 178.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1132.html
تقصير الرابط:
tak.la/2p3xb6f