[3] المسيح له المجد صائمًا
كان الدرس الأول الذي علَّمَه إيانا ربُّ المجد بعد المعمودية هو الصوم. فَصَوْم السيد المسيح أربعين يومًا، في بدء خدمته الكهنوتية بعد المعمودية مباشرة، هو الدافع الأول للصوم الأربعيني المقدس[29]. وقد ذكره القديسَيْن متى ولوقا في الإصحاح الرابع من بشارتهما:
«ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إبْلِيسَ. فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا.» (متى4: 2،1)
«أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا» (لوقا4: 1، 2).
من خلال تأمُّلِنا في هذَيْن النَّصَّيْن تَتجلَّي أمامنا قِيمة الصوم.
فالرب جاء إلى أرضنا آخِذًا صورة الإنسان. وبدأ خدمته الكهنوتية مباشرة بعد المعمودية، بأن صام أربعين يومًا صومًا مُتَّصِلًا دون انقطاع.
كان صومه صومًا هادفًا أهدافًا روحية وخلاصية من بينها:
· صام لأجلنا؛ ليُعَلِّمَنا الجهاد الروحي.
وهنا يَظْهَر الصوم كنوع من الجهاد الروحي يدفعنا إليه الروح القدس. حتى أن الرب رسم لنا الطريق فيقول الكتاب: «ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إبْلِيسَ. فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (متى4: 1، 2)
فقد كان الصوم مقرونًا بالخلوة في البرية، مقرونًا بالحروب الروحية:
· خُلوة في البرية: كان الروح القدس هو الذي يُصعده إلى البرية التي صام فيها (متى4: 1)، وأخرجه إليها (مرقس1: 12)، وقاده فيها أربعين يومًا (لوقا4: 1، 2).
· حرب روحية: يدخل إليها الصائم فينتصر ويتَرَقَّى. هنا نشير إلى نقطة هامة، فليست الحياة الروحية فترة هدوء الحرب مع إبليس، إنما الحياة الروحية هِيَ حرب مع الشيطان وانتصار، فيختبر الإنسان نعمة الله، ويتمرس على الجهاد والنصرة.
وفي صوم السيد المسيح، نجِد حروب الشيطان، ليست فقط في نهاية الصوم بل خلاله أيضًا. فبينما يقول القديس متى «فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ الْمُجَرِّبُ» (متى4: 2، 3) مشيرًا إلى التجارب الثلاث الكِبار. قال القديس مرقس «وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (مرقس1: 13) مُشيرًا إلى أن الصوم في البرية كانت تصحبه تجارب من الشيطان خلال الأربعين يومًا كلها، وهذا ما أكده القديس لوقا «وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ» (لوقا4: 1، 2).
لماذا الحروب؟
الصوم كفضيلة يعطينا الغَلَبة على الشيطان كما قال رب المجد: «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (مرقس9: 29) (متى17: 21)، ولذلك فالصوم:
· يُثِير حسد وخوف الشياطين؛ فينْبَرون للحرب مع الصائمين.
· يُثِير حسد الشيطان؛ لأننا بالصوم نتمثل بالمسيح ونغلب شهواتنا.
· يُثِير خوف الشياطين؛ فهو مع الصلاة يعطينا الغَلَبة، فنقوى على طرْدِه من الآخرين حتى نُقَوِّض مَملكتَه ونُحَطِّمها، فينبري الشيطان للحرب، ولكنها حرب أمام جنود مُحَصَّنين بالصوم.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
المسيح في تأنسه يُقَدِّم البَشَرِيّة صائمة فيه:
ماذا كانت القصة في البداية؟
كانت الوصية الأولى لآدم هِيَ وصية الصوم «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا» (تك2: 16، 17) فهي وصية الصوم: "من جميع الأنواع تأكل، أما هذا النوع فلا تأكل منه".
وسقط آدم الأول، وبسقوطه سقطت البَشَرِيّة كلها.
«مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ إذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ. (أو بالذي جميعُهم قد خطئوا فيه)[30]» (رومية5: 12)،
و«بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ» (رومية5: 15).
لماذا؟
يقول الرسول بولس: «فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ». (1كورنثوس15: 22)
ومن المهم أن نفهم هذه الآية.
فآدم أخطأ قبل أن يُنْجِب نسْلًا آخَر غَيْرَهُ.
ولو لم يحدث هذا، لتَغَيَّر الأمْر، وانقسمت البَشَرِيّة إلى قِسْمَين: قِسْم وارث للموت هم أبناء آدَم المخطئ، وقِسْم آخَر لا يرث الموت هم المولودون من آدم في حالة البِّر. لكن ما حدث أنه حينما أخطأ آدَم، كُنَّا كُلُّنا فيه. فلما حُكِم على آدَم بالموت، فيه مات الجَميع.
وهنا نسأل سؤلًا ثانيًا:
لماذا جاء المسيح له المجد من عذراء؟
لكي لا يأتي من صُلْبِ آدم وارثًا للخطيئة، وهذه هِيَ الإجابة البسيطة، وَهِيَ صحيحة ولكن مع ذلك يبقى السؤال:
لماذا جاء المسيح له المجد من عذراء بطريقة معجزية؟.
حينما تجسد الرب لم يأتِ من جسد إنسان ما، بل جاء بطريقة معجزية، آخِذًا جسد الإنسانية كلها.
فكما كانت البَشَرِيّة كلها مُمَثَّلَـة في آدَم الأول؛ لذلك ماتت بموته،
هكذا كانت البَشَرِيّة كلها حاضرة في آدَم الثاني؛ ولذلك حَيَتْ بحياته.
وقال الرسول بولس «لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ
سَيُحْيَا الْجَمِيعُ.» (1كورنثوس15: 22). وهكذا صار المسيح له المجد على الصليب بجسم بَشَرِيّتنا، كُنَّا كُلُّنا فيه عندما صُلِب؛ ولذلك استطاع الرسول بولس أن يقول «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.» (غلاطية2: 2).
ولذلك: كُلُّ عَمَلٍ قَدَّمَه السيد المسيح في تَجَسُّدِه كان نائبًا عن البَشَرِيّة.
قَدَّمَ فيه البَشَرِيّة كلها تعمل هذا العمل. فهو كاهن البَشَرِيّة كلها.
إذَن فلْنَعُدِ الآن إلى السؤال الأول: لماذا صام المسيح له المجد؟
صام عنا... بهذا التعبير الدقيق، ترتل كنيستنا المُرشَدَة بالروح القدس... "صام عنا... أربعين يومًا وأربعين ليلة".
أولًا: صام ليُقَدِّم البَشَرِيّة فيه طائعة خاضعة لله
لما كانت الخطيئة الأولى للبَشَرِيّة بآدم الأول هِيَ كسر وصية الصوم؛ لذلك بدأ آدم الثاني (السيد المسيح) خدمته الكهنوتية بالصوم.
وجاء المسيح آدم الثاني يُقَدِّم في جِسم بَشَرِيّته، الإنسانيةَ كلها خاضعة للآب، وبالذات في الوصية التي كسرها آدم الأول، وصية الصوم.
فكان الصوم هو أول عمل عَمِله الرب يسوع، إذ بدأ خدمته الكهنوتية مباشرة بعد المعمودية، فصام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة.
مُقَدِّمًا خضوعًا يعالِج به العِصيان، وصومًا يعالِج به شهوة الأكل وكَسْر الوصية، واتضاعًا يُعالِج به الكبرياء، واستمر هكذا إلى أن قَدَّمَ قيامةً يُعالِج بها الموت.
فصوم المسيح له المجد متجسدًا
· به صامت البَشَرِيّة كلها الحاضرة في جسم بَشَرِيّته.
· فيه أخذ الذي لنا (جسد الإنسانية كلها) وصام به عنا.
· أعطانا الذي له، فقَدَّمَنا فيه طائعين لله خاضعين لوصيته الأولى لنا.
نعم صام عنا...
ثانيًا: ليُقَدِّم البَشَرِيّة فيه غالبة الشيطان:
انتهت قصة معركة الشيطان مع آدم الأول بطرده خارج الفردوس إلى القفر؛ لينظر إليه إلى الشَّرق[31] في حسْرة وألم.
ووقف الشيطان في نشوة الانتصار على آدم الأول، بعدما كسر الصوم وأكل من الشجرة. لذلك جاء ابن الله، آدم الثاني، إلى البرية حيث طُرِد آدم خارج الفردوس، وصام؛ ليَدْخُل معه في المعركة أثناء صومه ويخرج منتصرًا.
فقَدَّمَ للشيطان صورة الإنسان الصائم الجائع، بأن صام الرب دون أن يتدخل اللاهوت في رفْع الجوع أو التعب عنه. لذلك قيل عنه أنه «جَاعَ» (متى4: 2) (لوقا4: 2)، وفي هذه الحالة «فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: "إنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا"». (متى4: 3).
نفْس المشكلة:
آدم الأول الصائم في جنة عَدْن، والشيطان في صورة المُشفِق يطلب منه أن يأكل.
آدم الثاني الصائم في البرية، والشيطان في صورة المشفق يطلب منه أن يحول الحجارة خبزًا.
آدم الأول يأكل فيسقط،
وآدم الثاني يصوم فينتصر.
«مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ». (متى4: 4)
الأمر الهام في هذه القصة:
بهذا الصوم دخل الرب يسوع المتأنس كآدم الثاني في معركة مع الشيطان؛ ليهزمه إنسانيًا، وبالوسائل التي يمكن أن يستخدمها الإنسان، دون تدخُّل اللاهوت؛ ليكون بهذا مُنتصِرًا لنا، لِحسَابنا. فيه انتصرت البَشَرِيّة على الشيطان وقهرتْه في نفْس المعركة الأولى، معركة الصوم. وهذا رَسَم أمامنا صورة الانتصار على الشيطان بواسطة الصوم.
وكما صام الرب مباشرة عند بدْء عَمَلِه الكهنوتي، يصوم الكهنة بعد أخذ نعمة الكهنوت مباشرة أربعين يومًا. وهكذا أيضًا تصوم الكنيسة مُقتَدِيةً بربها، فتصوم أربعين يومًا خلال الصوم الكبير.
صوم محدد المدة
كان صوم الرب محددًا بمدة أربعين يومًا، ولم تأتِ هذه المُدة صُدفةً، لكنه كان صومًا أربعينيًا محدد المدة منذ بدء الصوم، وهذا لسببين:
(1) يقول القديس مار لوقا: «وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا» (لوقا4: 1، 2) أي تمَّت المدة المحددة والمعروفة سابقًا.
(2) مدة الأربعين يومًا كانت هِيَ مدة صوم موسى النبي وإيليا النبي وكلاهما كانا رمزًا للمسيح، فهذه المدة محددة منذ العهد القديم.
_____
[29]يشمل الصوم الكبير أسبوع تمهيدي، وأربعين يومًا صوم رب المجد، ثم أسبوع الآلام.
[30]هذه هي الترجمة الأكثر دقة.
[31] لأن جَنة عدْن قال عنها الكتاب «غَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا» (تك 2: 8)؛ ولذلك نحن ننظر إلى الشرق أثناء صلواتنا للعودة إلى الفردوس المفقود بالفكر الروحي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/biblical-proof-1/fasting-jesus.html
تقصير الرابط:
tak.la/hnta493