[10] الصوم والميعاد الثابت والصوم المفاجئ
يُسَجِّل سفر الأعمال في الإصحاح قبل الأخير قصة سفينة الإسكندرية المسافرة إلى إيطالية، التي ركبها مار بولس، وكانت على وشْك أن تتحطم في وسط البحر فيقول:
«وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِرًا، إذْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْضًا قَدْ مَضَى، جَعَلَ بُولُسُ يُنْذِرُهُمْ قَائِلًا: "أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَنَا أَرَى أَنَّ هذَا السَّفَرَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ كَثِيرَةٍ، لَيْسَ لِلشَّحْنِ وَالسَّفِينَةِ فَقَطْ، بَلْ لأَنْفُسِنَا أَيْضًا".... وَلكِنْ بَعْدَ قَلِيل هَاجَتْ عَلَيْهَا رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا "أُورُوكْلِيدُونُ" فَلَمَّا خُطِفَتِ السَّفِينَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ الرِّيحَ، سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ.[32]... وَبِالْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ الْقَارِبَ... وَإذْ كَانُوا خَائِفِينَ... أَنْزَلُوا الْقُلُوعَ، وَهكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ.... فَلَمَّا حَصَلَ صَوْمٌ كَثِيرٌ. حِينَئِذٍ وَقَفَ بُولُسُ فِي وَسْطِهِمْ وَقَالَ: "كَانَ يَنْبَغِي أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنْ تُذْعِنُوا لِي، وَلاَ تُقْلِعُوا مِنْ كِرِيتَ، فَتَسْلَمُوا مِنْ هذَا الضَّرَرِ وَالْخَسَارَةِ. وَالآنَ أُنْذِرُكُمْ أَنْ تُسَرُّوا، لأَنَّهُ لاَ تَكُونُ خَسَارَةُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ، إلاَّ السَّفِينَةَ. لأَنَّهُ وَقَفَ بِي هذِهِ اللَّيْلَةَ مَلاَكُ الإلهِ الَّذِي أَنَا لَهُ وَالَّذِي أَعْبُدُهُ، قَائِلًا: لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ. يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَقِفَ أَمَامَ قَيْصَرَ. وَهُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ اللهُ جَمِيعَ الْمُسَافِرِينَ مَعَكَ"» (أعمال27: 9، 14-23).
هذه القصة المثيرة، المليئة بجهاد وتعب القديس بولس الرسول، تشير إلى صومين أو نوعين من الصوم:
(أ) صوم قبل الخطر، أشار إليه (العدد 9).
(ب) صوم أثناء الخطر وبسببه، أشار إليه (العدد 21).
الصوم الأول في هذه القصة يذكره سفر الأعمال في العدد التاسع فيقول «وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِرًا، إذْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْضًا قَدْ مَضَى» (أعمال27: 9).
وهو صوم تَعَبُّدِي، له ميعاد ثابت ومعروف؛ إذ «صَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِرًا» بعد أن «كَانَ الصَّوْمُ أَيْضًا قَدْ مَضَى». الصوم سبق الخطر.
لم يكن هذا الصوم خاص بأهل السفينة، من أجل الخطر الذي تعرضت إليه سفينتهم، بل كان صومًا عامًا معروف الميعاد. بل ربما كان محفوظًا لدى الذين يسافرون كثيرًا في هذا البحر، أن السفر بعد هذا الصوم المعروف ثابت الميعاد، يكون خطرًا؛ بسبب تلك الرياح الزوبعية المشهورة باسم (أوروكليدون).
وبلغت شهرة هذا الصوم، أن يُحدِّد الناسُ به مواعيد السفر البحري. وقد بدأ المسافرون رحلتهم، كما يشير سفر الأعمال، قبل هذا الميعاد بفترة، محاولين أن تنتهي رحلتهم قبل نهاية الصوم. إذ يقول الكتاب «وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِرًا، إذْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْضًا قَدْ مَضَى».
ماذا تَعْنِي كلمة «أَيْضًا»؟ أن السفينة بدأت رحلتها قبل الصوم بزمن، وكان من المُنْتَظَر أن رِحلتهم البَحْرية ستنتهي في بداية الصوم أو مُنتَصفه، لكن تقديرهم لظروف الرياح والأمواج قد أخفق، «مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِرًا»؛ ولذلك دخلوا في هذه المشكلة التي حطمت كل شيء. ولولا أن الله قد تدخَّل، ومن أجل مار بولس، وَهَب جميعَ المسافرين معه النجاةَ.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
هذا هو الصوم الثاني في هذه القصة. فوجود الصوم العام لا يلغي وجود النوع الثاني من الصوم. وهو ليس صومًا تَعَبُّدِيًّا كالسابق، ولا ثابتًا في ميعاده أو معروفًا، بل إنه صومٌ مفاجئ خاص بأهل هذه السفينة. وهو صوم طلبي؛ إذ حدث بسبب الخطر الذي تعرضت له السفينة فطلبوا النجاة من الله.
واستمر هذا الصوم مدة أربعة عشر يومًا منذ بدء ظهور المشكلة إلى نهايتها، أو إلى ظهور ملاك الله لمار بولس يُنْبِئُه بالنجاة. حتى كان مار بولس يطلب إلى الجميع أن يَتَنَاوَلُوا طَعَامًا، قَائِلًا: «هذَا هُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ لاَ تَزَالُونَ صَائِمِينَ، وَلَمْ تَأْخُذُوا شَيْئًا.[33] لِذلِكَ أَلْتَمِسُ مِنْكُمْ أَنْ تَتَنَاوَلُوا طَعَامًا، لأَنَّ هذَا يَكُونُ مُفِيدًا لِنَجَاتِكُمْ». (أعمال27: 33-34).
«سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ» (أعمال27: 15).
ربما يكون هذا التعليق بعيدًا عن موضوع الصوم، ولكن قد جاء هذا النَّصُّ عَرَضًا، فلا مانع من أن نُعَلِّق عليه.
استخدم البعض هذه العبارة استخدامًا خاطئًا، وجعلوا يُرَتِّبون عليها العظات، واعتبروها ضِدَّ الجهاد الروحي، وطلبوا من سامعيهم أن يوقفوا جهادهم. ففي الوقت الذي يقف فيه جهاد الإنسان ويُسَلِّم، تَحمِلُه الأذرُع الأبدية، فتعمل معه النعمة. وهكذا جعلوا الآية، وكأنها تجعل الجهاد مانعًا للنعمة، أي حينما يُسَلِّم الإنسان ويُبطِل جهاده، تعمل النعمة ويُحمَل بواسطة الله.
وهذا النَّصُّ الكتابي بعيدٌ كل البُّعْد عَن هذا المعنى...
كلمة «نُحْمَلُ» هنا معناها تَحمِلنا الأمواج والرياح، ونصير في خطر شديد. تعال نرجع إلى النَّصِّ الكتابي كاملًا. «وَلكِنْ بَعْدَ قَلِيل هَاجَتْ عَلَيْهَا رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا "أُورُوكْلِيدُونُ". فَلَمَّا خُطِفَتِ السَّفِينَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ الرِّيحَ، سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ. فَجَرَيْنَا تَحْتَ جَزِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا "كَلَوْدِي" وَبِالْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ الْقَارِبَ» (أعمال27: 14-16).
أي عندما ضَعُفَتِ السفينة أمام الريح، سلَّمنا، فحملتنا هذه الريح ودفعتنا تحت الجزيرة، وكِدْنا نَهلَك، وبالجهد قَدِرْنا أن نملِك القارب.
فكلمة «فَصِرْنَا نُحْمَلُ» لا يُقصَد بها أن نُحمَل على الأذرُع الأبدية، ولا يُقصَد بها عملُ النعمة إطلاقًا.
يقول سفر الأعمال «وَنَحْنُ نُحْمَلُ تَائِهِينَ فِي بَحْرِ أَدْرِيَا، ظَنَّ النُّوتِيَّةُ، نَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ، أَنَّهُمُ اقْتَرَبُوا إلَى بَرّ.» (أعمال27: 27)
ويشرح السفر معنى كلمة «نُحمل»، أنها تَرْكُ السفينة تُحمَل من الأمواج «وَلَمَّا رَفَعُوهُ طَفِقُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعُونَاتٍ، حَازِمِينَ السَّفِينَةَ، وَإذْ كَانُوا خَائِفِينَ أَنْ يَقَعُوا فِي السِّيرْتِسِ، أَنْزَلُوا الْقُلُوعَ، وَهكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ. وَإذْ كُنَّا فِي نَوْءٍ عَنِيفٍ... رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا أَثَاثَ السَّفِينَةِ» (أعمال27: 17-19).
_____
[32] اُنظر شرح هذه العبارة في نهاية الحديث.
[33] انقطع المسافرون عن الطعام أربعة عشر يومًا، ولكن هل انقطعوا عن الماء؟ ذكر الكتاب الطعام ستة مرات متتالية، ولم يذكر الماء مرة واحدة. فالامتناع عن الطعام أربعين يومًا ممكن للإنسان فيتغذى على المخزون في جسمه، أما الامتناع عن الماء فشيءٌ آخر. صحيحٌ أن السيد المسيح وموسى النبي وإيليا صاموا أربعين يومًا عن الماء، ولكنها معجزة لكبار الروحيين. فهل كان أهل السفينة هكذا؟ بالطبع لا. فهل كان صومهم انقطاعًا عن الطعام وليس عن الماء؟ أعتقد هذا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/biblical-proof-1/fasting-different-times.html
تقصير الرابط:
tak.la/w5dkjc2