لقد أخذت المسيحية وخاصة الكنيسة القبطية كل غنى العهد القديم[1]، وجعلته أساسًا لها، واكتشفت الرموز وأوضحتها، وطبقتها من خلال ممارستها الطقسية في صلواتها، بعد أن عمدتها وألبستها ثوبًا مسيحيا فجعلتها طقوسًا مسيحية قلبا وقالبا.
والحركات الطقسية لها معان روحية، وعقائدية، ولاهوتية خفية غاية في الأهمية تريد الكنيسة الملهمة بالروح القدس أن توصلها لأولادها، ولقد كانت هذه المعاني موجودة في ذهن آباء الكنيسة عندما أقروا هذه الحركات، ولابد أنهم استمدوها من الكتاب المقدس كما استمدوا كلمات الصلوات الطقسية نفسها بما فيها القداس الإلهي، وكذلك المبنى الكنسي، وتقسيمات الكنيسة من الداخل حيث الهيكل، وخورس المؤمنين، وخورس الموعوظين، والتي تقابل في الهيكل اليهودي، قدس الأقداس، والقدس، والدار الخارجية، وكذلك مكان اللقان في الكنيسة يقابل مكان المرحضة في الهيكل اليهودي. أو بناء الكنيسة كسفينة حيث إنها فلك النجاة.
وكما جاءت خيمة الاجتماع في مجملها، وتفصيلها تشهد للمسيح، ولعمله معنا، كذلك الكهنوت بكل تفاصيل ملابسه، وطقس عبادته.
ومفهومنا للكهنوت اليهودي إنه رمز لكهنوت المسيح، بينما الكهنوت المسيحي هو اختفاء العاملين فيه في المسيح. حيث أن السيد المسيح في الإفخارستيا هو الكاهن، والمذبح، والذبيحة كما يقول القديس كيرلس الإسكندري[2]، والقديس إبيفانيوس يقول في هذا الشأن: «أن المسيح هو الكاهن والذبيحة والمذبح ورئيس الكهنة والحمل وقد صار كل هذا لأجلنا لكي ننال نحن حياة ويصير لنا به حياة[3]».
والطقس فن مقدس من نوع رفيع لا مجال فيه للارتجال، بل يتطلب التروي وحُسن الأداء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكما أن المسيح لم يعمل حركة إلا وكانت غنية في صفائها وصدقها، فعلينا أن نخدم المسيح بحسن الأداء لنتقدس به، ويتمجد هو فينا.
فنحن في القداس لا نخترع، فالقداس، لب القداس هو تسليم من
السيد المسيح
نفسه،
أخذه القديسون وأصاغوه بالروح القدس،
فالأصل هو ما سلمه
السيد المسيح
للرسل (1كو 11: 23)، وهو هو بنفسه الذي وضع
طقوس وشرائع الذبائح في العهد القديم
(خر 25: 8، 40 وسفر اللاويين الاصحاحات1و 2و 3و 4).
ولا ننسى أن الله في العهد القديم عاقب كل من تعدى على الطقس، كما في حادث ناداب وأبيهو عندما قربا نارًا غريبة (لا 10: 1- 3)، وعُزِّيَّا الملك عندما تعدى على عمل الكهنوت (2أخ 26: 19)، وعُزَّاَ الذي مد يده إلى التابوت فمات (1 أخ 13: 9، 10).
ويقوم الطقس القبطي على عدد هائل من الحركات الرمزية، لدرجة أنه يمكننا القول بأنه لا توجد حركة طقسية واحدة لا معنى لها، وهو غنيّ بالرموز أكثر من سواها.
وللرمز عادةً منفعتان: منفعة خاصة مباشرة، لكونه وُضع لفائدة عمليّة خاصّة، ومنفعة رمزيّة غير مباشرة لكونه يدلّ على شيء آخر يسمو عليه.
فالشمعة مثلًا التي تضاء على المذبح المقدّس، لها أولًا: منفعتها المباشرة في إنارة المكان كسائر أدوات الإنارة، ولها أيضًا فائدة رمزيّة: لأنها تشير إلى نور التعليم الإلهي، وإلى النفس المؤمنة التي تضيء في العالم كالشمعة المنيرة.
والرفرفة بالغطاء الكبير (الابروسفارين) على القرابين بعد صلاة الصلح: إنها وُضعت لطرد الهوام إن وجد. وكذلك للدلالة على الزلزلة الأرضية التي رافقت موت المسيح على الصليب.
غير أن لبعض الرموز منفعة رمزيّة فقط، إذ إنها وُضعت من أصلها للدلالة على الرموز له لا غير.
مثلما يرفع الكاهن يديه للصلاة هذا يشير إلى موسى الذي كان عندما يرفع يديه ينتصر الشعب، وعندما يخفضهما ينهزم.
وعندما يلف الكاهن القربان الحمل بلفافة يشير بذلك إلى الأقمطة التي لفت بها العذراء ابنها وقت ولادته (لو2: 7)، وكون اللفافة من كتان فذلك إشارة إلى الرب الذي عندما ظهر لدانيال كان لابسًا كتانا (دا10: 5).
وكذلك تشير الصينيّة إلى المذود الذي وضع فيه الطفل يسوع (لو 2: 7).
وعندما يضع الكاهن الحمل على يديه ويرفعه على رأسه يشير بذلك إلى سمعان الشيخ الذي حمل الطفل يسوع على يديه وبارك الله قائلًا: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك» (لو2: 29- 30).
تغطية الحمل بعد صلاة الشكر إشارة إلى هروب السيد المسيح وأمه والقديس يوسف إلى مصر وتغيبه في الناصرة عن الأبصار مدة ثلاثين سنة [4] (مت2: 13، 15). وغيره الكثير، وهذه الحركات وضعت لا لفائدة عملية خاصة وإنما رمز فقط.
والطقس القبطي غنى بالتكرار، والتأكيد على كون السيد المسيح آتى وولد من العذراء وعاش وعلَّم وعمل المعجزات وتألم وصلب وقبر وقام في اليوم الثالث. لذلك يمكننا القول بأن القداس الإلهي ليس إلاَّ تذكيرًا بهذه المراحل. وكلمة تذكير هنا لا تعنى مجرد الذكرى[5] بل «التأوين (الآن)»، وإعادة معايشة ما قام به السيد المسيح الآن وفي هذه اللحظة...
والطقس القبطي هو طقس فريد في شكله، ومضمونه، نبع من إيمان الأقباط الشديد بالسيد المسيح، ومن اليقين بأن الصلاة الحقيقية هي تلك الصلاة النابعة من الحياة والتي تؤثر في الحياة. والطقس جاء نتيجة تطورات عديدة تعود لآلاف السنين فاعتمد على الكتاب المقدس والتقليد وخبرة إيمان القديسين.
والتمسك بالطقس يعني:
أولًا: معرفته، وثانيًا: شرحه، وثالثًا: احترامه..
_____
[1] ويعبر عن ذلك القديس بولس الرسول بقوله: وأنت -أي كنيسة العهد الجديد والتي تتكون من الأمم- زيتونة برية طعمت فيها -أي في كنيسة العهد القديم والتي تتكون من اليهود قبل حلول الروح القدس على التلاميذ والتي كانت العبادة تقام فيها بهيكل سليمان- فصرت شريكا في أصل الزيتونة ودسمها (رو11: 17).
[2] المعنى الليتورجى للإفخارستيا مقال بمجلة الكرمة الجديدة سنة 2006 م للدكتور مجدى رشيدى.
[3] المرجع السابق.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-yoannes-st-paul/rite-eucharist-old-testament/preface.html
تقصير الرابط:
tak.la/5qasnx7