إنني أعرف جيدًا أن جامدي الفكر، المتلهفين في جريهم وراء الأمور الزمنية، المربوطين بمحبة العالم، المأسورين تحت عبودية اللذات الجسدية، الذين ليس لديهم إدراك قوي للمفاهيم الروحية، هؤلاء إذ يرون أن ما أنطق به منذ بدايته غير معقول، لذلك يكون لهم هذا المقال غريبًا ومتناقضًا، ويفرطون في الاستهزاء به. لكن هذا لن يعوقني عن تحقيق ما وعدت به، بل بالعكس يدفعني إلى الاجتهاد في البرهنة عليه.
وإنني أرجو من أولئك الذين لهم وجهة النظر هذه في الموضوع الذي أتكلم فيه أن ينتظروا حتى نهاية حديثي. وأنا متأكد أنهم سيأخذون برأيي ويُدينون أنفسهم، مكتشفين أنهم كانوا مخدوعين حتى هذه اللحظة. وعندئذ ينتقدون اعتقادهم الخاطئ الذي تمسكوا به في هذا الشأن، معتذرين، طالبين الصفح، بل وشاكرين إيايّ كثيرًا، كما يفعل المرضى بالأطباء عندما يُشفوا من أتعاب أجسادهم.
لهذا لا تخبرني ما هو رأيك الآن، بل انتظر حتى تسمع مني براهيني، وعندئذ يكون لك حكم صائب، دون أن يعوقك جهلك عن ذلك. لأنه في القضاء، حتى في الأمور الزمنية، إذا رأوا الخطيب الأول يقدم حججًا قوية وينقد كل بند تمامًا، لا يكتفون بذلك معلنين حكمهم ما لم يستمعوا إلى الخطيب الثاني (المحامي) خصم الخطيب الأول. حتى وإن بدتْ ملاحظات الأول حقيقية إلى درجة كبيرة، لكنهم يحجزون الحكم حتى يستمعوا إلى الثاني. بالحقيقة تكمن عظمة القضاة أولاً في استماعهم بدقةٍ لكلا الطرفيْن، وبعدئذ ينطقون بالحكم.
هنا نستبدل الخطيب بالمفهوم العام الذي صار له مع مرور الزمن أساس عميق في داخل أفكار الجماعة، وصار له تأثير قوي في العالم. هذا المفهوم (الخاطئ) يقول: "كل الأشياء قد قُلِبَتْ رأسًا على عقب، وأن الجنس البشرى مشحون باضطرابات كثيرة، إذ كثيرون يخطئون كل يوم، كثيرون يشتمون، كثيرون يخضعون تحث العنف والشر. فالضعيف مذلول للقوي، والفقير يخضعه الغني".
وكما يستحيل إحصاء عدد أمواج البحر، هكذا لن يمكن إحصاء ضحايا الساقطين تحت أعباء المكائد والإهانات والآلام. ولا يمكن أن يوقف تيار هذا الوباء والاضطراب، لا بتعديل القانون، ولا بالإرهاب عن طريق القضاء، ولا بشيء من هذا القبيل، إنما في كل يوم يتزايد الشر أكثر فأكثر. حتى أصبحت تنهدات المتألمين وندبهم ونحيبهم أمرًا جماعيًا مألوفًا...
يوجد من يتمسكون بنوعٍ جديدٍ من الحماقة، وهو اتهام عناية الرب، عندما يرون الإنسان العفيف كثيرًا ما يكون ساقطًا تحت العنف ومضروبًا ومهانًا بشدة، بينما الإنسان الوقح القاسي الوضيع يصب مضايقات لا تُحصَى على من هم أكثر منه عفة، ويتجنَّى على من في المدينة أو في القرية أو في الصحراء أو في البحر أو البر.
هذا المقال الذي أدلي به ضروري حتى يصحح ما يزعمونه... مثبتًا أن أي إنسان يخطئ يصيبه الضرر بيديه، ولم يبعثه على الخطأ إنسان آخر.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/who-can-harm-you/article.html
تقصير الرابط:
tak.la/k9zs6cs