محتويات: (إظهار/إخفاء) |
مقدمة نحن في دور الخلقة تستطيع بالنعمة الإلهية تشكيل روحك الله يقبل الزناة جمال الجسد جمال الروح |
خلق الله النفس البشرية على صورته ومثاله، وهذا الخلق لم يكن بإرادة الإنسان، إذ كان عدمًا. أما بعد خلقته، فقد صارت له إرادة حرة لأنه على مثال الله. بهذه الإرادة الحرة كان يمكن أن يسمو ويتقدم في المعرفة والمجد خلال الالتصاق الدائم بالله. لكن للأسف أفسدت النفس جمالها، واحتاجت إلى يد الخالق أن تعمل فيها، وذلك إن أرادت النفس، لأن لها مطلق الحرية.
بالصليب صار للنفس البشرية أن تطلب - إن أرادت - يد الخالق ليعيدها إلى جمالها الأول. وهي في ذلك تنمو يومًا فيومًا، وتبرز فيها ملامح صورة الله إلى أن يأتي يوم الدينونة فتكون لنا صورة كاملة له، فننعم بشركة المجد. نحن الآن في العالم في دور التكوين، إما أن نطلب يد الله حتى ينمو الإنسان الجديد الذي له صورة الله ويُغلب الإنسان القديم، أو نرفض عمله فيّنا، فنفك رباطات الإنسان القديم أي الصورة المشوهة فيّنا ولا يكون لنا نصيب مع الفادي.
وقد قارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين خلقة الإنسان وهو في الرحم، وخلقة الإنسان الجديد (نموها كل يوم) في هذا العالم. فرأى أن كليهما يعيشان في عالم ضيق مملوء بالمتاعب، وأن كليهما تبرز فيهما الملامح يومًا فيومًا. وأنه إذا وُلد أحدهما قبل الموعد ينزل من ضيق إلى ضيق أخطر.
غير أن هناك فارقًا شاسعًا بين الاثنين، فالإنسان يُخلَق في رحم أمه رغم إرادته، ولا يُؤخذ رأيه في لونه أو جمال وجهه أو طوله الخ. أما النفس البشرية فلها أن تمسك يد الفادي ليخلق لها الصورة التي تطلبها، إن اشتاقت إلى ملامح المحبة الإلهية أو ملامح السلام أو الوداعة أو التعفف أو الصلاح. كل هذا ترسمه يد الله في القلب. فالله ساكن فيه ومستعد أن يعمل، لأنه "يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4)، لكنه ينتظر قبول النفس البشرية لعمله فيها.
يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لم يهبنا السلطان لتشكيل أجسادنا بالجمال الذي نشتهيه حتى لا ننشغل بها عن الانشغال بتشكيل أرواحنا بالجمال اللائق بها خلال نعمته الإلهية.
إننا في هذا العالم نشبه الجنين في الرحم. فنحن قاطنون في هذا العالم الضيق، وغير قادرين هنا أن ننال مجد الحياة الأخرى وحريتها (مهما فعلنا). لكن متى جاء موعد رحيلنا، يوم يقذف هذا العالم بالإنسان إلى يوم الدينونة (كما يقذف الرحم بالجنين). فإن الذين أجهضهم العالم (أي كانوا سقطًا لم يكتمل نموهم)، يخرجون من الظلمة إلى ظلمة أحلك، ومن حزنٍ إلى حزنٍ أشد؟
أما الذين كمُل تكوينهم (أي يُولدون أحياء) لهم ملامح الصورة الملوكية، فإنهم يُقدمون إلى الملك ويقومون بالخدمة التي للملائكة ورؤساء الملائكة نحو إله الكل.
لذلك أطلب إليك أيها الصديق ألاّ تزيل تلك الملامح (العلامات) تمامًا، بل أصلحها بسرعة، واختمها على نفسك بأكثر كمال.
حقًا لقد ثبَّت الله الجمال الجسدي في حدود الطبيعة (أي لا يقدر الإنسان على تشكيل جسده)، أما نعمة الروح فتُعتق من الحبس والعبودية، صاعدة من هذه الحالة، بقدر ما تسمو كثيرًا عن أي تناسق جسدي، وهي تعتمد في ذلك علينا (أي إرادتنا) وعلى نعمة الله.
فسيدنا، بكونه رحيمًا، شرّف جنسنا في هذا الطريق الخاص، تاركًا للطبيعة أن تختص بتشكيل الأمور الصغيرة (الجسد) التي لا تساهم كثيرًا في نفعنا. ففي سلطانها أمور غير هامة، أما نحن فقد جعلنا فنانين فيما يختص بالأمور التي هي بحق هامة (أي بإرادتنا نُسلِّم لنعمة الله أن تشكل النفس وتجمِّلها).
فلو ترك الله لنا أن نشكل أجسادنا، لأصبحنا في قلقٍ متزايد، وأضعنا كل أوقاتنا في أمور لا تنفع، وبالتالي كنا سنهمل الروح إهمالًا زائدًا.
وبالرغم مما نحن عليه، من عدم إعطائنا هذا السلطان (في اختيار وتشكيل أجسادنا)، نقوم بمجهودات جبارة، وإذ لا نقدر أن نحصل على جمالٍ جسداني حقيقي، ندبِّر بدهاء تقليدات كثيرة، باستخدام المساحيق والأصباغ، والتزين بشعر مستعار، والحُليّ، واستخدام أقلام للحواجب... وكثير من الحيل. فلو أعطيت لنا القدرة على تشكيل الجسد تشكيلًا حقيقيًا، فهل سيكون لنا الوقت الذي نخصصه للنفس وللأمور الخطيرة؟!
لو فرضنا أن هذا هو عملنا، ما كان يشغلنا عمل آخر، بل كنا نقضي كل زماننا فيه، مُزينين الجارية (الجسد) بزخارف لا حصر لها، تاركين سيدتها (النفس) في حالة مشوهة ومهملة. لهذا السبب أعفانا الله من العمل غير المفيد، واضعًا فينا قوة العمل في العنصر النبيل (النفس).
فمن لا يقدر أن يغيّر جسده القبيح إلى شكل جميل، يستطيع أن يسمو بالنفس، حتى ولو كانت قد انحدرت إلى أقصى حدود القبح، ليصل بها إلى قمة الجمال. ولا يجعلها محبوبة ومرغوبًا فيها من الصالحين فحسب، بل ومن الله ذاته سيد الكل وإلههم، حتى أن المرتل عندما نطق بخصوص هذا الجمال قال: "فيشتهي الملك حسنك" (مز 45: 11).
ألا ترى أنه حتى في بيوت العاهرات، بصعوبة يقبل الفائزون في المصارعة والعبيد الهاربون النساء قبيحات المنظر؟!
وإن سقطت إحدى النساء الجميلات الصورة، ذات الأصل الطيب، الوديعة، لظروف سيئة، أفلا يخجل أي شخص من العظماء أن يتزوج منها؟!
وكما أن بعض الرجال المملوءين شفقة ذوي الأمجاد العظيمة، يعتقون نسوة من عبوديتهن، اللواتي كن بلا كرامة في بيوت العاهرات، ويقبَلونهن زوجات لهم، هكذا يصنع الله أكثر من هذا مع تلك النفوس التي اغتصبها الشيطان، فسقطت من حالتها النبيلة الأولى وصارت زانية في هذه الحياة.
لقد امتلأت أسفار الأنبياء بأمثلة من هذا النوع، عندما خاطبوا أورشليم التي سقطت في الزنا... فكما يقول حزقيال: "لكل الزواني يعطون هدية، أما أنتِ فقد أَعطيتِ كل محبيك هداياكِ، ورشيتِهم ليأتوكِ من كل جانب للزنا بك" (حز 16: 33). وقال آخر: "في الطرقات جلست كأعرابي في البرية" (إر 3: 2). وهذه الإنسانة (أورشليم) التي ارتكبت الزنا بهذه الصورة، دعاها الله مرة أخرى، وحتى عندما سمح بأسرها لم يكن للانتقام منها بقدر ما كان لإصلاحها...
إن كان الله لم يتخلَ عن توبة هذه التي ارتكبت الزنا دفعات كثيرة، كم بالأكثر يقبل نفسك التي سقطت لأول مرة؟!
انظرْ إلى مقدمة إرميا وإلى أسفار الأنبياء، عندما احتقر الشعب الرب وذمُّوه، كيف أسرع هو إليهم وجدَّ في طلب صداقة من تركوه.
وهذا أيضًا ما أظهره بوضوح في الأناجيل قائلًا: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37). وكما كتب القديس بولس الرسول إلى أهل كورنثوس قائلًا: "إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسبٍ لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة، إذ نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 19-20).
تأمل فإن هذا قد قيل لأجلنا.
إنني أعلم أنك مُعجَبٌ الآن برشاقة هيرموان Hermoine (المرأة التي كان يحبها)، وقد حكمت عليها بأنه لا يوجد في العالم من يضارع جمالها.
أيها الصديق... إن أردت، تقدر أنت نفسك أن تضارعها في حُسنها وجمالها، كما تضارع التماثيل الذهبية تلك التي من الطين. لأنه إن كان جمال الجسد يسحر عقول الرجال ويثيرها، فكم يكون جمال الروح وحسنها عندما تتألق؟!
ما هو مصدر هذا الجمال الجسدي، إلاَّ ما فيه من لعاب ودم وعصارة صفراء وطعام ممضوغ؟!... إن تأملت ما في داخل العينين الجميلتين والأنف المستقيم والفم والوجنتين، فسوف لا تجد هذه الأعضاء الجميلة سوى كونها قبورًا مبيضة مملوءة في الداخل قاذورات.
تصور أنك رأيت خرقة بها قليل من اللعاب، أما تأنف من أن تلمسها حتى ولو بأطراف أصابعك؟! لا بل ولا تحتمل النظر إليها، ومع ذلك تنخدع بتأثير مخزن هذه الأشياء؟!
أما جمالك أنت فليس من هذا النوع، بل يفوق جمالها، كما تسمو السماء عن الأرض، بل بالحري أكثر من ذلك وأبهى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى... وان كان لم يرَ أحًد روحًا بذاتها منفصلة عن الجسد، إلاَّ أني مع هذا سأحاول أن أُقَدِّمَ لك جمال الروح بطريق آخر، أقصد حالة القوات السمائية العظيمة.
اسمعْ فإن جمال هذه القوات بهر دانيال الرجل المحبوب. فمع أنها (الملائكة) لم تظهر له في طبيعتها الأصلية كما هي، بل في ظلام وبطريقة قاتمة، إلاَّ أنها أضاءت بلمعان عظيم هكذا، فكم بالأكثر تكون صفات طبيعتها عندما تتحرر من هذا الحجاب؟!
إن هذا يُظهر إلى حد ما صورة جمال الروح "لأنها مثل ملائكة الله" (راجع لو 20: 36)...
_____
(1) هذه المقدمة من وضع المعرب لتبسيط فكرة القديس يوحنا الذهبي الفم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/stronger/god-wants-you.html
تقصير الرابط:
tak.la/hxdw6g9