2. العناية الإلهية وبلبلة الألسن
"وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة... وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًا. فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الطين، وقالوا: هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء... ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج الذي كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض..." (تك 11).
بلبل ألسنتهم حتى لا يكمل شرهم.
لنتمسك بهذا البرهان (السابق) في كل شيءٍ، ولنطبقه في الأمر المعروض علينا... (بلبلة الألسن).
لقد وهب الله البشرية أن تنطق بلسانٍ واحدٍ، وهذا من قبيل حبه وترفقه بهم غير أنهم استخدموا العطية استخدامًا غير لائق، بل بغباوة أخطأوا، لهذا عاد الله وسحب العطية منهم.
فإذ كان لهم اللسان الواحد، سقطوا في غباء عظيم راغبين في بناء برج إلى السماء. ولو لم يؤدبهم (الله) في الحال لما كفوا عن رغبتهم في البناء لعلهم يصلوا إلى السماء... وإذ كان بالحق يستحيل هذا عليهم، لكنه ما كان يمكن أن تزول أفكارهم الشريرة نحو تنفيذ الخطة. هذا كله نظره الله مُقدَّمًا، ففرقهم إلى ألسنة متباينة...
تأمل معي في حنو ترفقه، إنه يقول: "هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه" (تك 11: 6). فإنه ما الداعي في ألا يبلبل الألسنة ألا بعد أن يدافع عن تصرفه كمن يحاكم في ساحة قضاء؟! مع أنه لا يقدر أحد أن يقول له لماذا يفعل هذا؟!
نعم، إنه كان حرًا يفعل ما يشاء، ومع هذا فقد قدَّم حسابًا، مقيمًا دفاعًا، معلمًا إيانا النبل والحب. لأنه إن كان السيد يدافع عن (تصرفاته) أمام عبيده، حتى عندما أخطأوا في حقه، فكم بالأولى بنا نحن أن نظهر سبب تصرفاتنا أمام الغير، حتى وإن أخطأوا في حقنا خطأ جسيمًا!
انظر على الأقل كيف دافع عن نفسه، قائلًا: "هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل" (تك 11: 6). وكأنه يقول: لا يتهمني أحد عندما يرى انقسام الألسنة. ليته لا يظن أحد أن هذا التباين قد حدث منذ البداية، لأنه "هوذا شعب واحد ولسان واحد". ولكن هم الذين لم يحسنوا استخدام العطية.
ولكي تفهم كيف لم يكن يقصد أن يؤدب بقدر ما كان يقصد إصلاحهم في المستقبل، اسمع ما ورد بعد ذلك: "والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه" (تك11: 6). وكأنه يقول بأنه إن لم يوقع التأديب الآن، ويوقف جذور خطاياهم، لن يكفوا عن الشر، لأن قوله: "لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه" تعني كما لو أنهم مقدمون على القيام بأعمال أخرى أكثر شرًا. لأن هذا الأمر هو شر، إذ بدأوا فيه لا يوجد ما يمنعهم عن العمل، بل يكونون كالنار التي متى لحقت بالخشب ارتفع اللهب إلى علو غير منطوق به.
هل رأيت كيف كان الحرمان من وحدانية اللغة من قبيل حنو الله؟! لقد جعلهم مختلفي اللغة حتى لا يسقطوا في شرٍ عظيمٍ!
تطلع معي إلى هذا البرهان، وليكن ثابتًا في ذهنك غير متزعزع، أن الله صالح ومحب، ليس فقط عندما يعطي عطايا، بل وعندما يؤدبنا أيضًا. فإنه حتى تأديباته وعقوباته هي من قبيل جوده، ومظهر عظيم من مظاهر عونه لنا.
إن رأيت مجاعات أو كوارث أو قحطًا وامتناع مطر أو تقلب في الجو أو غير ذلك من الأمور التي تؤدب البشرية، فلا تتضايق ولا تيأس، بل اعبد الله الذي سبّبها (أو سمح بها)، وتعجب من اهتمامه المملوء حنوًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فإنه يصنع هذا لتأديب الجسد لأجل سلامة الروح.
قد يقول قائل: هل الله يصنع هذه الأمور؟...
إنني لا أقول بهذا زهوًا، بل مستعينًا بالنبي الذي يصرخ قائلًا: "هل تحدث بلية (شر) في مدينة والرب لم يصنعها" (عا 3: 6). وهنا كلمة "شر" تعبير غامض، أريدكم أن تفهموا بدقة حتى لا تخلطوا بين المعاني وتسقطوا في تجديف بسبب غموض اللفظ.
للقديس مار يعقوب السروجي قصيدة رائعة عن رعاية الله العجيبة في بلبلة الألسن، أقتطف منها هنا القليل:
[لقد أدب البابليين بتقسيم لغاتهم، وأصبح ذاك التأديب حجة ليعَمِر العالم.
بذلك الخصام الحادث هناك عمرت الأرض، وبتلك الحجة انتشروا في كل الجهات.
أتقنهم كما لو كان يضربهم لأنهم فسدوا، وبددهم وملأ الأرض من أسباطهم.
لو لم يشفق على السفهاء ويبددهم، لكانوا يختنقون بسبب كثرتهم في أرض بابل.
كيف يسكن جميع الشعوب على كثرتهم في بقعة واحدة؟ كيف تسكن خليقة غير محدودة في مكانٍ واحدٍ؟
أراد السفهاء أن يحددوا هذه القرى والمدن المليئة منها المسكونة بقرية واحدة.
لو لم يشفق الرب ويبددهم كيف كان يكفيهم المكان الذي تسلطوا عليه؟
بلبلهم وكان يُظن بأنه قصاص، إنما الفعل كان مليئًا بالمراحم للعالم كله...
قسم لهم البلدان مثل الورثة، ومن تهديده نبع فعل الحسنات.
هذه بركة كانت تُصنع بالقصاص ليسكنهم بدل شعب شعوبًا مختلفة.
هذا ما كان قد فعله مع إبراهيم عندما باركه: يدعى اسمك أبا الشعوب، وليس أبا الشعب.
ما حدث لإبراهيم كان يأخذه كموهبة، وأُعطي لهؤلاء الذين تمردوا بالقصاص.
ها قد ظهر بأن ضربته مليئة ضمادًا، مبارك الحنان لأنه كله مراحم لخليقته![5]]
_____
[4] لم يرد في أقوال القديس يوحنا الذهبي الفم نص الكتاب المقدس. وقد أوردته حتى يسهل على القارئ متابعة أقوال القديس.
[5] القديس مار يعقوب السروجي: الميمر 33 على بناء برج بابل (تك 11: 1-9) (راجع نص بول بيجان والدكتور بهنام سوني).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/satan/tongues.html
تقصير الرابط:
tak.la/x76fj52