أيها الأحباء لنقتدِ بأيوب المُجَرَّب، فنجني أقصى ربح من كلا الحالتين (آدم وأيوب)، نجني التمثل بآدم، عالمين مقدار الشرور التي تتولد من التراخي، والتمثل بتقوى أيوب، عالمين عظم الأمور المجيدة التي تنبع عن الغيرة (اليقظة).
تأملوا ذاك الذي صار معدمًا في كل شيءٍ، فإنه سيكون مصدر تعزية بالنسبة لكم في كل ألمٍ وكل كارثة. إذ هو كمن يقف على مسرح العالم عامة، ويتحدث ذلك الرجل المبارك النبيل مع الجميع عن الآلام التي احتملها، حتى يحتملوا كل ما يحل بهم بنبلٍ ولا يستسلموا للمتاعب التي تحف بهم. لأنه لا توجد متاعب بشرية لا نأخذ عنها تعزية من هنا. إذ المتاعب التي تبعثرت في العالم كله، نجدها قد تجمعت هنا في جسد شخصٍ واحدٍ...
1. افتقر أكثر من
الشحاذين
2. احتمال الآلام الجسدية
3. احتمال موت أولاده
4. احتمال سخرية البشر
5. احتمال أهوال الليل
أنت بلا عذر
لنذكر تلك (الكارثة) التي تبدو للجميع أنها غير محتملة، أقصد الفقر وما ينشأ عنه من ألمٍ، لأنه في مكان ينتحب الناس من أجل الفقر.
من كان أكثر فقرًا من أيوب، الذي افتقر أكثر من (الشحاذين) السالكين في الطرق...؟! فهؤلاء لهم ثوب ممزق، أما هو فجلس عريانًا، إنما كان له ذلك الثوب الذي أمدته به الطبيعة، أي الجسد، وحتى هذا الثوب مزقه الشيطان من كل جانب، بل أصابه بالقروح...
هذا القطيع الفقير له على الأقل أن يستظل تحت سقفيه في الطرقات ولهم مأوى، أما أيوب فبقي لياليه في العراء لا سقف له يأويه.
وما هو أشد من هذا، إن هؤلاء ربما يشعرون بشرورٍ مرعبةٍ في حياتهم (هي السبب في التأديب)، أما هذا فلم يكن يشعر بشيءٍ في داخله... الأمر الذي سبب له آلامًا مبرحة، وأوجد فيه حيرة شديدة، وذلك لجهله سبب ما حدث له.
قلت إن هؤلاء لهم ما يوبخون به أنفسهم، وهذا يساهم بتعزيةٍ ليست بقليلةٍ في أثناء الكارثة، أن يشعر الإنسان أنه يعاقب بعدلٍ. أما أيوب فقد نُزعت عنه كل تعزية...
هؤلاء... فقراء منذ بداية حياتهم، اعتادوا على ذلك. إنما هو احتمل الكارثة التي لم يعتد عليها، مختبرًا الحرمان الشديد من الثروة (التي كانت له). وكما أن معرفة السبب تعطي الإنسان تعزية عظيمة، فانه ليس بأقل منها أن يكون الإنسان قد ذاق الفقر منذ البداية واستمر فيها.
لقد حُرم هذا الرجل من كل هذه التعزيات ولم يقف أمره عند هذا الحد... نعم، إنه بالحري لم يكن له حتى في سلطانه أن يتمتع بالأرض المجردة، بل جلس في مزبلة.
لذلك عندما ترى نفسك تفتقر، تأمل ما احتمله هذا البار، وللحال ترتفع وتنفض عنك كل قنوط...
والكارثة الثانية بعدها، بل بالحري قبلها (أي أشد من الفقر)، ألا وهي آلام الجسد. من هو عاجز مثله؟ من يحتمل أمراضًا هكذا؟ من يعاني، أو رأى إنسانًا يعاني من آلام مبرحة كهذه؟ لا أحد.
لقد كان جسده يخور شيئًا فشيئًا، وعواصف القروح تهب عليه من كل جانب، في كل أطرافه... والرائحة الكريهة تحيط به بعنف، والجسد يتحطم قليلًا قليلًا وتصيبه العفونة، لهذا صار الطعام بالنسبة له لا طعم له، أما الجوع فصار غريبًا وشاذًا بالنسبة له، فلم يكن فقط غير قادرٍ على التمتع بالقوت الذي يعطى له، بل قال عنه: "خبزي الكريه" (أي 5: 5).
أيها الإنسان، إن سقطت في ضعف، اذكر ذلك الجسم المقدس، لأنه كان مقدسًا ونقيًا حتى عندما أصابته جروح كثيرة!...
وإن أُخذ الإنسان ظلمًا بغير ذنب، ووضع في حناك[12]، وقُطعتْ أعضاؤه إلى أجزاء... فلينزع آلامه بتذكره هذا القديس.
لكن ربما يقول قائل: لكن هذا الإنسان كانت له راحة عظيمة وتعزيه، لأنه يعلم أن الله هو الذي جلب عليه هذه الآلام.
بالحقيقة هذا كان يقلقه بالأكثر ويضايقه، أن يفكر في الله العادل والذي يخدمه بكل الطرق يحاربه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولم يكن لديه علة مقبولة لما حدث. لذلك عندما علم أخيرًا السبب، أنظر أي ورع أظهر... إنه يقول: "وضعت يدي على فمي. مرة تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد" (أي 40: 4-5). ومرة أخرى يقول: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (أي 42: 5-6).
ولكن إن حسبت أن هذا كان كافيًا للتعزية، فإنك تستطيع أنت أيضًا أن تختبر هذه التعزية. لأنه وإن لم تعانِ من هذه الكوارث (من يدي الله)، لكن كنتيجة لعجرفة البشر، قدِّم التشكرات لله ولا تُجَدِّف على هذا الذي هو قادر أن يمنعهم عنك، فتحصل على نفس المكافأة...
هل تريد أيضًا أن أريك القتال في أيدي الطبيعة التي ثارت ضد هذا النبيل بدرجة زائدة؟
لقد فقد أولاده العشرة، الكل اُكتسحوا دفعة واحدة، والكل في ريعان شبابهم، والعشرة كانوا فضلاء، ولم يموتوا موتًا طبيعيًا، بل موتًا قاسيًا يُرثى له. من يقدر أن يعبر عن كارثة كهذه؟! لا أحد! عندما تفقد ابنًا وابنة في وقت واحد، تطلع إلى هذا البار، فتجد عزاء عظيمًا لنفسك...
كان أيضًا هروب أصدقائه منه واستهزائهم وسخريتهم وتهكمهم وتجريحهم له أمرًا لا يُطاق. فإن آلام الكارثة لا تعادل تلك التي من أولئك الذين يوبخوننا ونحن في كارثتنا...
ليس فقط لم يوجد من يلطف الكارثة، بل الكل كانوا يقرعون به. وها أنت تراه ينتحب بمرارة، قائلًا لهم إنهم هم أيضًا يعذبونه (أي 19: 1). وقد دعاهم غير رحماء بقوله: "أقاربي قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني. نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيًا. صرت في أعينهم غريبًا. عبدي دعوت فلم يجب. بفمي تضرعت إليه"[13] (أي 19: 14، 16).
ويقول أيضًا أنه صار موضع حديث الكل يتسلون به (أي 19: 9-10). بل ويقول: "حتى تكرهني ثيابي" (أي 9: 31).
لم يجد أيضًا راحة حتى في الليل، فان أهوال الليل المرعبة أقسى من مصائبه بالنهار... "ترعبني بالأحلام، وترهبني برؤى" (أي 7: 14).
أي رجل من حديد، أو قلب من فولاذ، حتى يحتمل هذه المصائب جميعها؟! إن كانت كل كارثة لا تُحتمل على حده... ومع ذلك احتمل الكل. وفي كل ما حدث له لم يخطئ، ولا نطق على شفتيه بشرٍ.
لتكن آلام هذا الرجل أدوية لأمراضنا، وأمواج بحره الهائج ميناء لأتعابنا، ناظرين إلى هذا القديس في كل ما يحدث لنا، فنراه يعلو على مصائب الحياة، فنسلك نحن بشجاعة.
ولكن إن قلت: انه أيوب! ولذلك احتمل كل هذا. أما أنا فلست مثله. فإنك بهذا تمدني باتهام عظيم ضدك، ومديح جديد له. لأنه كان الأجدر بك أن تحتمل أكثر منه.
قد تسألني: لماذا؟ لأن أيوب كان في عهد ما قبل النعمة وقبل الناموس، حيث لم تكن هناك حياة صارمة ولا أُعطِيت نعمة الروح القدس العظيم، عندما كان يصعب محاربة الخطية، وكانت اللعنة سائدة، والموت مرعبًا. أما الآن فقد صارت المصارعة أسهل، وهذه الأمور (اللعنة) اُستبعدت بعد مجيء المسيح، حتى إنه ليس لنا عذر إن لم نصل إلى مستواه، بعد طول زمن ومزايا كثيرة نلناها، وعطايا وهبها الله لنا.
إذًا بالنظر إلى كل هذه الأمور، إنه كان الخصم أكثر خطورة، والإنسان أعزل أمام عدوه (الشيطان)، فعلينا أن نحتمل بنبلٍ كل ما يحل بنا، شاكرين على ذلك، حتى يمكننا أن نحصل على نفس الإكليل الذي لأيوب، بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى أبد الأبد. آمين.
_____
[12] آلة تقمط على العنق واليدين (pillory).
[13] استحسنت ذكر النص كاملًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/satan/job.html
تقصير الرابط:
tak.la/vwdjcx5