في ترك الأشياء المنظورة التي في هذا العالم لا نترك ما هو ليس لنا بالرغم من أننا استحوذنا عليه بمجهودنا أو ورثناه عن أجدادنا. وكما أقول أنه ليس هناك شيء مِلك لنا فيما عدا ما يملكه قلبنا وما تلتصق به روحنا، الأمر الذي لا يقدر أحد أن ينزعه عنا.
لقد نطق السيد المسيح بعبارات اللوم بالنسبة للأغنياء، الذين يتمسكون بالغنى المنظور، كأنه مِلك لهم، رافضين أن يساهموا بنصيب منه للمحتاجين، فيقول: "وإن لم تكونوا أمناءَ في ما هو للغير فَمنْ يعطيكم ما هو لكم؟!" (لو12:16). واضح إذن أنه ليس فقط خبرتنا اليومية، تعلمنا بأن هذا الغنى ليس مِلكًا لنا، بل هذا ما ينطق به إلهنا أيضًا...
ويقول بطرس للرب عن هذا الغنى المنظور: "ها نحن قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟" (مت27:19)، مع أنهم لم يتركوا شيئًا سوى الشباك البالية. لذلك فإن عبارة: "تركنا كل شيء" يفهم منها ترك الخطايا التي هي بالحقيقة أهم وأخطر. فإن ترْك التلاميذ لممتلكاتهم الأرضية المنظورة تركًا تامًا، ليس سببًا كافيًا لينعموا بالمحبة الرسولية، ويتسلقوا بشوق واجتهاد المرحلة الثالثة من الترك، التي هي شاهقة وتخص قليلين.
كم بالأحرى يلزم أن يفكر في أنفسهم أولئك الذين لم يستطيعوا أن يسيروا في الخطوة الأولي السهلة بطريقة كاملة، محتفظين بضعف إيمانهم بجانب غناهم السابق الدنيء، ظانّين في أنفسهم أنهم يفتخرون لمجرد تسميتهم رهبانًا؟!
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
فالنوع الأول من الترك، هو ترك ما هو ليس لنا (أيضًا الممتلكات الأرضية)، وهذا لا يكفي لمنحنا الكمال ما لم نسمو إلى النوع الثاني الذي فيه ترك الأمور التي تخصنا (أيضًا العادات والرذائل الملتصقة بالنفس). وإذ ننبذ كل أخطائنا نصعد إلى مرتفعات النوع الثالث أيضًا حيث نسمو لا علي مجرد الأشياء التي في هذا العالم أو التي تخص البشر، بل نسمو علي العالم كله الذي هو حولنا والذي يبدو مجيدًا، ناظرين إليه بقلبنا وروحنا أنه باطل وسريع الزوال، فنتطلع إليه كقول الرسول: "ونحن غير ناظرين إلى الأشياءِ التي تُرَى بل إلى التي لا تُرَى. لأن التي تُرَى وقتيَّة وأما التي لا تُرَى فأبديَّة" (2 كو18:4).
يلزمنا أن ننصت إلى النصيحة العظمى التي قُدِّمت لإبراهيم: "اذهب إلى الأرض التي أُريك" (تك1:12). وهذه تعلن بأنه ما لم ينفذ الإنسان الأنواع الثلاثة من الزهد بكل شوق لا يقدر أن يصل إلى هذه المرحلة الرابعة التي توهب كإكليل وحق من أجل ما نزهده بالكامل. فيصير الإنسان مستحقًا أن يدخل أرض الموعد (السماويات) التي من أجلها يحتمل شوك الخطية وحسكها. فعندما تزول الآلام (الخطية) بواسطة نقاوة القلب حتى وهو في الجسد حينئذ يربح أرض الموعد، لا من أجل أعماله الفاضلة ومجهوداته البشرية، بل كوعد الله نفسه أن يرينا إياها قائلاً لنا: "اذهب إلى الأرض التي أُريك". مُظهرًا بهذا أن بداية ثمار الخلاص تأتي من وعد الله القائل: "اذهب من أرضك" وأيضًا هي عطية منه حيث يتم الكمال والنقاوة ويتحقق القول: "اذهب إلى الأرض التي أُريك" (تك1:12). فهي أرض لا تقدر أن تعرفها أو تكتشفها بمجهودك الذاتي بل الأرض التي "أُريك إياها" أي التي تجهلها ولم ترها.
بهذا يتضح أننا نسرع في طريق الخلاص، خلال تفاعلنا بوحي الله، حتى أنه بواسطة إرشاد توجيهاته وعمله فينا ننال كمال البركة العظمى.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-3-need-for-god.html
تقصير الرابط:
tak.la/42zx9ft