26- هل يتحقق وعد الرب بالمائة ضعف في هذا العالم؟
بالأحرى إن جزاء المكافأة التي وعد بها الرب هو مائة ضعف في العالم بالنسبة للذين زهدهم كامل، إذ يقول: "وكلُّ مَن ترك بيوتًا أو إخوة أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًا أو امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعفٍ ويرث الحياة الأبدية" (مت 29:19). يتحقق هذا بحق وصدق، ولا يضطرب إيماننا لأن كثيرين استغلوا هذا النص كفرصة لبلبلة مفاهيم البعض قائلين بأن هذه الأمور (المائة ضعف) تتحقق جسديًا في الألف سنة[3].. لكن الأمر المعقول جدًا والواضح وضوحًا تامًا أن من يتبع المسيح تخف عنه الآلام العالمية والملذات الأرضية، متقبلاً إخوة وشركاء له في الحياة ارتبط بهم ارتباطًا روحيًا. فيقتني حتى في هذه الحياة حب أفضل مائة مرة عن (الحب الناتج عن الرباط الدموي). فبين الآباء والأبناء والإخوة والزوجات والأقارب يقوم الرباط على مجرد علاقات القربى، لذا فهو قصير الأمد وينحل بسهولة. أما الرهبان فيحتفظون بوحدة باقية في ألفة، ويملكون كل شيء في شركة عامة بينهم، فيرى كل إنسان أن ما لإخوته هو له، وما له هو لإخوته. فإذا ما قارنا نعمة الحب التي لنا هكذا بالنسبة للحب الذي يقوم على مجرد الرباطات الجسدية، بالتأكيد نجده أعذب وألذ مائة ضعف.
هكذا أيضًا نقتني من العفة الزيجية (حيث ترتبط النفس بالرب يسوع كعريس لها) سعادة تسمو مئات المرات عن السعادة التي تتم خلال وحدة الجنس.
وعوض الفرح الذي يختبره الإنسان بملكيته حقل أو منزل، يتمتع ببهجة الغنى مئات المرات بكونه ابن لله يملك كل ما يخص الآب الأبدي واضعًا في قلبه وروحه مثال الابن الحقيقي القائل: "كلُّ ما للآب هو لي" (يو 15:16). إنه يربح لنفسه كل شيء، منصتًا كل يوم لإعلان الرسول: "كل مالي هوٍ لكم" (1 كو 22:3).
هكذا يتحقق لنا المائة ضعف عن طريق تقبلنا لأمور من نوع أعظم في القيمة... فلو أعطينا عوض وزن معين من النحاس أو الحديد أو أي معدن شائع وزنه ذهبًا، بهذا يكون قد رد لنا ما هو أكثر من مائة ضعف. وهكذا عوض المباهج المزدرية والعواطف الأرضية يُوهب لك فرح روحي وسعادة الحب الثمين للغاية، ولو بنفس الكمية، لكنه أفضل منها مائة ضعف وأكثر.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لكي ما أوضح هذا بمثال أقول: قد كان لي زوجة من أجل إشباع عاطفة شهوانية، والآن صارت لي في تقديس مبارك وحب المسيح الحقيقي. فالمرأة كما هي واحدة، لكن محبتي لها قد تضاعفت مائة مرة من حيث النوع.
وإذا ما استبدلت الغضب المثير والحنق بالوداعة الدائمة والصبر، وعوض الإجهاد المقلق والتعب أخذت السلام والتحرر من الاهتمام، وعوض الاضطراب الأرضي العقيم نلت ثمار الحزن المبارك، وعوض بطلان الفرح الزمني أخذت غنى المباهج الروحية، أما ترى أنك بذلك تكون قد كوفئت عن المشاعر التي تتركها بمائة ضعف؟!.. وإذا ما استبدلنا لذة الخطية الوقتية الزائلة ببركات الفضائل المضادة، فإننا نكون قد نلنا مباهج أفضل مائة ضعف...
الآن لنترك التأمل في طبيعة الأمور التي يعوضنا بها المسيح في هذا العالم مقابل احتقارنا الربح الزمني، خصوصًا ما ورد في إنجيل مرقس القائل: "الحقَّ أقول لكم ليس أحد ترك بيتًا أو إخوة أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًا أو امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مائة ضعفٍ الآن في هذا الزمان بيوتًا واخوةً وأخواتٍ وأمهاتٍ وأولادًا وحقولاً مع اضطهاداتٍ وفي الدهر الآتي الحياة الأبديَّة" (مر10: 29، 30). لأن ذاك الذي من أجل اسم المسيح يزدري بمحبة أب أو أم أو طفل ويسلم نفسه للحب النقي لكل الذين يخدمون المسيح، فإنه ينال مائة ضعف من الإخوة الأقرباء، ويصير له آباء كثيرون، ويرتبط برباط أخوة أشد حرارة في حب عجيب. ويغتني بأملاك كثيرة فتصير كأن كل الأديرة له، أينما ذهب في العالم يجد له مكانًا... في نفس الوقت لا يختطف ملكوت السموات من كان كسلانًا أو مهملاً أو مترفًا أو مدللاً إنما يختطفه الغاصبون. ومن هم الغاصبون؟ هم بالتأكيد الذين لا يقسون على الآخرين بل على أنفسهم، نازعين عنهم مباهج الحياة الحاضرة بقوة ممدوحة، معلنين بنعمة الرب أنهم غاصبون ممتازون، وبهذا يسرقون ملكوت السماوات بقوة، إذ يقول الرب: "ملكوت السماوات يُغصَب، والغاصبون يختطفونهُ" (مت 12:11).
هؤلاء بالتأكيد يستحقون المديح كغاصبين يغتصبون العنف لهلاك ذواتهم... أو بالتأكيد "هلاك تنفيذ شهواتهم ورغباتهم". وذلك لما كان الإنسان يسحب هذه الشهوات والرغبات ويميتها، فإنه يبث عنفه لأجل هلاكه، أي هلاك لذاته ورغباته التي تنتهرها الكلمة الإلهية بالنبي قائلة: "ها إنكم في يوم صومكم تُوجِدون مسرَّةً وبكل أشغالكم تسخرون... إن رددت عن السبت رجلك عن عمل مسرتك" (إش 58: 3، 13). وقد أضاف النبي التطويب الموعود به لمن يترك مسرته ويمسك بمسرة الرب قائلاً: "فإنك حينئذٍ تتلذَّذ بالرب وأُركبك على مرتفعات الأرض وأُطعمك ميراث يعقوب أبيك لأن فم الرب تكلم" (إش 14:58).
يعطينا ربنا ومخلصنا نفسه مثالاً لنزع إرادتنا قائلاً: "لأني قد نزلت... ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني" (يو38:6). يظهر هذا النوع الجيد من ترك الإرادة في حياة السالكين في نظام الشركة تحت قيادة الآباء، حيث لا يصنعون شيئًا بغير مشورة الأب...
بمثل هذه العبارات ناقش الأب إبراهيم أصل الخداعات المملوءة مكرًا التي يقترحها الشيطان علينا، ملهبًا فينا الشوق نحو الإماتة الحقيقية، حيث نرجو أن نرى كثيرين أيضا يلتهبون بهذا، ولو أننا كتبنا هذه الأمور في صورة مختصرة...
_____
[3] للأسف يفسر البعض الألف سنة، على أن السيد المسيح سيملك ألف سنة مع المؤمنين على الأرض، وهذا يخالف روح المسيح، لكن المسيح حاليًا يملك على قلوبنا مُلكًا روحيًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-24-hundredfold.html
تقصير الرابط:
tak.la/8xf4rd3