9- بين إرادتنا الصالحة ونعمة الله
لا يستطيع العقل البشري أن يدرك بسهولة كيف يعطي الرب الذين يسألونه، وكيف يُوجد للذين يطلبون منه ويفتح للقارعين، بينما من الجانب الآخر يعطي من لم يسألوه ويبسط يديه لغير المؤمنين والمجدفين، مناديًا ومقدمًا الدعوة للذين يقاومونه والمبتعدين عنه، جاذبًا البشر نحو خلاصهم، حاملاً الذين يرغبون في الخطية إلى ما هو على خلاف رغبتهم، إذ بصلاحه يقف في طريق المندفعين نحو الشر.
من يقدر بسهولة أن يرى كيف أن تمام خلاصنا يتم بإرادتنا إذ قيل: "إن شئْتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمرَّدتم تُؤْكَلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" (إش1: 19، 20)، وفي نفس الوقت "ليس لمن يشاءُ ولا لِمَنْ يسعى بل لله الذي يرحم" (رو16:9)؟!
كيف يكون هذا، أن الله "سيجازي كلَّ واحدٍ حسب أعمالهِ" (رو6:2)، وفي نفس الوقت "لأن الله العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في13:2)، و"لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد" (أف2: 8، 9)؟!
ما هذا أيضًا، إذ قيل: "اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. نقُّوا أيديكم أيها الخطاة وطهّروا قلوبكم يا ذوي الرأيين" (يع8:4)، وفي موضع آخر يقول: "لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبهُ الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو44:6)؟
ما هذا الذي نجده، "مَهّدْ سبيل رجلك فتثبت كل طرقك" (أم26:4)، بينما نقول في صلواتنا: "سهّل قدامي طريقك" (مز 8:5)، و"تَمَسَّكَتْ خطواتي بآثارك فما زلَّت قدمايَ" (مز5:17)؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وما هذا الذي يدهشنا إذ يقول: "اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها واعملوا لأنفسكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدة، فلماذا تموتون؟" (حز31:18) وهو الذي وعدنا بهذا إذ يقول: "وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحمٍ لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها" (حز11: 19، 20)؟!
ما هذا الذي يأمرنا به الرب قائلاً: "اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم لكي تُخلَّصي. إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!" (إر14:4)، بينما يسأله النبي قائلاً: "قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله اغسلني فأبيضَّ أكثر من الثلج" (مز51)؟!
ما هذا الذي قيل: "ازرعوا لأنفسكم نور المعرفة"[4] (هو 12:10)، وقد قيل عن الله: "المعلم الإنسان معرفةً" (مز 10:94)، "الرب يفتح أعين العمي" (مز8:146)، أو ما نقوله في صلواتنا بالنبي: "أَنِرْ عينيَّ لئَلاَّ أنام نوم الموت" (مز 3:13)؟!
في هذا كله إعلان عن نعمة الله وحرية الإرادة، حتى متى رغب إنسان في السلوك في طريق الفضيلة، يقف سائلاً مساعدة الرب. فلا يقدر أن يتمتع بالصحة الجيدة بإرادته، وبرغبته يتحرر من الضعف. لكن الأمر الصالح الذي نتوق إليه من جهة الصحة لا أناله ما لم يهبه الله الذي يمنحنا متعة الحياة ذاتها ويقدم لنا الصحة المملوءة نشاطًا.
من الواضح أنه خلال سمو الطبيعة التي وهبها لنا صلاح الخالق أحيانًا تثور فينا بداية الإرادة الصالحة، والتي لا نقدر أن نحققها عمليًا أو نتممها بغير قيادة الرب. ويشهد بذلك الرسول القائل: "فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحُسنَى فلست أجد" (رو 18:7).
_____
[4] النص البيروتي: "ازرعوا لأنفسكم بالبر".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-13-will-grace.html
تقصير الرابط:
tak.la/428rzrq