14. كيف يختبر الله قوة إرادة الإنسان عن طريق التجربة؟[5]
ا. هذا أيضًا ما نقرأ عنه، أن البرّ الإلهي قد أعان أيوب الأمين بحق في مصارعته، عندما ناهضه الشيطان في معركة فريدة. لكن لو تقدم أيوب ضد عدوه، ليس بقوته إنما بحماية نعمة الله مسنودًا بالعون الإلهي من غير أي احتمال من جانبه، فانه في خضوعه لهذه التجارب المتعددة... كم يكون للشيطان أن ينطق بعدلٍ مفتريًا بما سبق أن قاله قبلاً: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟! أَليس أنك سيَّجت حولهُ.. حول كل ما لهُ من كل ناحية؟! ولكن ابسط يدك الآن" أي اسمح لي أن أحاربه هو "فإنهُ في وجهك يجدّف" (أي 9:1-11).
لكن إذ لم يستطع العدو المفتري أن يحتج بهذا بعد المعركة، لأنه انهزم بقوة أيوب وليس بقوة الله[6]، لا بمعنى أن نعمة الله فارقت أيوب، لأنها هي التي أعطت للمجرب سلطانًا أن يجرب في الحدود التي كانت ترى فيها أن أيوب يقدر أن يقاومها، وفي نفس الوقت لم تحميه النعمة من هجمات العدو بطريقة تنزع فيها فضيلته وجهاده، إنما فقط هي تعينه. بمعنى أنها لا تسمح لذلك العدو الذي هو في غاية القسوة أن ينزع عنه عقله أو يغرقه أثناء ضعفه ببث أفكار فوق طاقته أو النزول معه في نزاع غير متساوٍ معه.
ب. أحيانًا يرغب الرب أن يمتحن إيماننا لكي يتقوى ويتمجد أكثر، وذلك كما في مثال قائد المئة الوارد في الإنجيل، إذ علم الرب أنه سيشفى خادمه بنطقه كلمة، ومع هذا اختار الرب أن يقدم له هذه الوسيلة وهي ذهابه إليه بالجسد، قائلاً: "أنا آتي وأشفيهِ" (مت7:8). وإذ غُلب قائد المائة من هذا العرض الذي قدمه الرب، قال بإيمان مملوء غيرة وحرارة: "يا سيّد لَستُ مستحقًّا أن تدخل تحت سقفي، لكن قُلْ كلمًة فيبرأَ غُلامي (عبدي)" (مت8:8)، فتعجب الرب منه ومدحه... فما كان يمكن أن يوجد له أساس للمديح والاستحقاق لو أن السيد المسيح قد ميزه هكذا عن الذين آمنوا بما قد وهبه هو به (أي لو لم يكن لقائد المئة نصيب في الجهاد من جانبه).
ج. نقرأ عن التجربة التي بقصد اختبار الإيمان التي جلبها البر الإلهي على العظيم في الآباء، إذ قيل: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم" (تك1:22)، لأن البر الإلهي أراد أن يمتحن ليس فقط الإيمان الذي أوحاه الله إليه... بل وليظهر حرية إرادته. لذلك فإن ثبات إيمانه لم يتزكى عبثًا، وقد جاءت نعمة الله التي فارقته إلى لحظة لتزكيته، جاءت تعينه إذ قيل له: "لا تمدَّ يدك إلى الغلام ولا تفعل بهِ شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك وحيدك عني" (تك12:22).
د. هذا النوع من التجربة الذي يمكن أن يحل بنا لأجل تزكيتنا أخبرنا عنه معطي الشريعة في سفر التثنية. "إذا قام في وسطك نبيّ أو حالم حلمًا وأعطاك آيةً أو أعجوبةً ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلَّمك عنها قائلاً: لنذهب وراءَ آلهةٍ أخرى لم تعرفها ونعبدَها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الربَّ إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" (تث1:13-3). هل عندما يسمح الله بأن يقوم مثل ذلك النبي أو يحدث ذلك الحلم، نقول بأنه سيحمي هؤلاء الذين يُختبرون في إيمانهم بطريقة لا يكون لهم فيها حرية إرادة، حيث يحاربون المجرب بقوتهم؟ وما الحاجة لتجريبهم إن كان الله يعلم أنهم هكذا ضعفاء وواهنين حتى أنهم لا يقدرون بقوتهم أن يقاوموا المجرب؟ بالتأكيد ما كان للبر الإلهي أن يسمح لهم أن يُجربوا ما لم يعلم أن فيهم قوة معادلة للمقاومة، بها يمكن أن يحكم عليهم حكمًا عادلاً إن وجدوا مستحقين للعقاب أو التكريم.
يتكلم الرسول أيضًا عن نفس النتيجة قائلاً: "إذًا مَنْ يظنُّ أنهُ قائِم فلينظر أن لا يسقط. لم تُصِبكْم تجربة إلاَّ بشريَّة. ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو12:10، 13). لأنه عندما قال "مَنْ يظنُّ أنهُ قائِم فلينظر أن لا يسقط" أعطى إرادة حرة من جانبه، إذ يعلم بالتأكيد أنه بعد ما نال النعمة يمكن أن يثبت بالجهاد أو يسقط خلال الإهمال. لكن عندما أضاف: "لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون" يوبخ ضعفهم وخوار قلبهم الذي لم يتقوَ بعد، إذ لم يستطيعوا بعد أن يقاوموا هجمات قوات الشر الروحية، تلك القوات التي يحارب ضدها هو وغيره من الكاملين كل يوم، إذ يقول لأهل أفسس: "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشرّ الروحية في السماويَّات" (أف12:6). وعندما أضاف: "ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون" بالتأكيد لا يعني أنه لا يدعهم يجربون، إنما لا يُجربوا فوق طاقتهم. فالعبارة الأولى تشير إلى إرادة الإنسان الحرة والأخرى إلى نعمة الله الذي يلطف من عنف التجارب.
إذن في كل هذه العبارات توجد براهين أن النعمة الإلهية تعمل في إرادة الإنسان لا لكي تحميها وتدافع عنها في كل الأمور بطريقة تجعلها لا تدافع عن نفسها بجهادها ضد الأعداء الروحيين، فينسب النصر إلى نعمة الله والهزيمة إلى ضعف الإرادة...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
مثال توضيحي
إن أردنا أن نوضح مراحم خالقنا التي لا نظير لها من أمور أرضية، ليست مساوية لها في الحنو بل لمجرد التوضيح، فإنها تشبه مربية غاية في الاهتمام تحمل طفلاً في حضنها لمدة طويلة فلكي، تعلمه المشي عوض الحبو، تساعده بمد يدها اليمنى لكي يستند عليها أثناء تبديل قدميه، وفي لحظة تتركه قليلاً، فإذا ما رأته يتطوح بشدة تمسك به بسرعة، وإذ تراه يسقط تخطفه وترفعه وتحميه من السقوط أو تسمح له أن يسقط سقطة خفيفة لترفعه بعدما يكبو. لكن عندما تربيه حتى إلى الصبوة أو قوة الشباب أو الرجولة المبكرة فإنها تعطيه بعض الأحمال والأثقال لا لكي تهلكه إنما لتمرنه، وتسمح له أن يتنافس مع من هم في عمره.
كم بالأكثر الأب السماوي الذي هو أب الجميع يعرف كيف يحمل الإنسان في حضن نعمته لكي ما يدربه على الفضيلة أمام نظره بواسطة تدريب إرادته الحرة، ومع ذلك يساعده في جهاده ويسمع له عندما يدعوه، وأحيانًا ينتشله من المخاطر حتى بغير معرفته.
_____
[5] حملت بعض العبارات مغالاة من جهة إرادة الإنسان وعلاقتها بنعمة اللّه.
[6] هذا النص من ضمن النصوص التي جعلت البعض يتهمونه بالـ Semi – pelagianism غير أنه يظهر من المقال في مجمله أنه لا يقصد تجاهل نعمة اللّه وقوته. لكن خاف البعض لئلا يقتطف البيلاجيون بعض عباراته منفردة عن المقال ويعتمدون عليها في تأكيد اتكالهم على أعمال الإنسان فقط.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-13-temptation.html
تقصير الرابط:
tak.la/t2t5d9x