إذ أراد الفيلسوف الألماني المادي فيبرخ أن يجرد الإنسان من إنسانيته وعواطفه وروحانياته قال إن "الإنسان هو ما يأكله". ونحن نقول أن الكتاب المقدس أعلن أيضًا أن الإنسان كائن جائع، يقدم له الله ما في العالم لكي يأكل فيشكر.
وكأن الإنسان كاهن يتقبل من يدي الله العالم كهبة إلهية يتحسس فيها أبوة الله ومحبته، مقدمًا حياته كلها كذبيحة أفخارستية "شكر" وحمد... لكن أحب الإنسان العالم خارج الله "وتعلق به" فقبل العطية دون العاطي. وبهذا تقوقع الإنسان حول ذاته كمركز للعالم لا يطلب إلاَّ ملذاته الأرضية. فخسر علاقته بإلهه ولم يعد حياته أفخارستية، بل ولا يستطيع أن يمارس الحياة الإفخارستية حتى وإن نطق بشفتيه تسابيح الحمد والإفخارستيا.
من أجل هذا لبس الكاهن الحقيقي، ابن الله، ناسوتنا، وإذ هو وحده الخالق الذي لا يقدر العالم أن يأسر قلبه أو يعزله عن أبيه، يستطيع أن يقدم ذبيحة الإفخارستيا عنا، لا بالصلاة فحسب بل وبالعمل، مقدمًا جسده ودمه المبذولين ذبيحة شكر للآب، لهذا في ليلة آلامه "أخذ خبزًا وشكر... وأخذ الكأس وشكر"(25).
وإذ ائتمن كنيسته على هذا السرّ، قدم حياته التي لا تعرف جحودًا هبة لها تحيا بها، وبهذا تشفي جراحات الجحود التي أصابت الإنسان الجائع، وتعود إليه الحياة الإفخارستيا.
لقد كان اسم "الإفخارستيا" هو الاسم المحبوب لدى آباء الكنيسة خلال القرنين الأول والثاني، يطلقونه على التقديس المسيحي(26).
وستلمس بنفسك في كتابات الآباء(27) ونصوص الليتورچيات(28) كيف تركزت صلوات الليتورچية حول "شكر الله الآب خلال ابنه" من أجل أعماله معنا في الخليقة الأولى وتدبيره خلاصنا... وتقديم هذا السرّ لنا. وتجد في جميع الليتورچيات أن "الإفخارستيا" أو الشكر يسيطر على كل الطقس من بدايته حتى نهايته...
فمثلًا غالبًا ما تبدأ صلوات القداس بالعبارة "فلنشكر (أفخارستومين) الرب" فيجيب الشعب "مستحق ومستوجب...".
ويعلق الأب شميمان على هذا بقوله: "إذ يقف الإنسان أمام العرش الإلهي... يعود إليه الفرح، فلا يجد لديه ما يقدمه سوى (الشكر). فالإفخارستيا هي حالة الإنسان الكامل، هي الحياة في الفردوس(29)". ونحن في القداس الإلهي نلبس المسيح، الكامل وحده، إذ به نعود إلى الفردوس بالتهليل، مقدمين بالحق تسبحة الشكر اللائقة به.
* عندما أدعوه "سرّ الشكر" أكتشف كل كنوز صلاح الله، وأدعو الذهن للتأمل في تلك المواهب العظيمة(30).
* نحن لسنا بجاحدي القلوب...
علامات اعترافنا بالجميل نحو الله هو هذا الخبز الذي يدعى "الإفخارستيا"(31).
يقول الأب جريجوري دكس أن الإفخارستيا المسيحية تمتد جذورها إلى أفخارستية "عشاء الشبورة" كن في معنى جديد وثوب جديد.
لقد سمح الله بهذا التقليد "عشاء الشبورة"، ليكون رمزًا خلاله نفهم الإفخارستيا المسيحية، لكن ما أبعد الفارق بين عشاء الشبورة والعشاء الأخير؟! ففي الشبورة تقدم صلاة تدعى ب "البركة Beraka(32)"، وهي عبارة عن صلاة حمد وشكر لله، فيها يقدمون الشكر لله من أجل خلاصهم من العبودية، ومن أجل نوالهم الشريعة، ولأنه يقوتهم ويعتني بهم... أما في تأسيس سرّ الإفخارستيا، فإن ربنا لم يقدم تسبحة كلامية بل "عملًا" تممه... قدم حياته ذبيحة شكر عنا.
والكنيسة في هذا السرّ لا تقف عند الترنم بتسابيح الشكر والحمد، بل تقدم حياتها لتصلب مع عريسها وتقوم به، وفي نفس الوقت تقبل من أبيها جسد عريسها ودمه المبذولين هبة إلهية تعيش بهما حياة أفخارستية.
بهذا تجد نفسها في سرّ الإفخارستيا يزداد دينها لدى الله بغير حدود، إذ وهي تشكر الله خلال الذبيحة غير الدموية، ذبيحة الابن وحيد الجنس، تتقبله حياة تعيش به.
_____
(24) Fr: Schmemann: Sacraments and Orthodoxy. القمص باخوم "أنبا غريغوريوس": في سرّ القربان
(25) Mat 26 : 27; Mark 24 : 23; Luke 22 : 19, 20; 1Cor 11 : 24, 25.
(26) Jungmann: The Early Liturgy
(27) See St. Justin: Apology 1 : 65, 66; St Ignatius: Ep. to Sym 6 : 2.
(28) See Book 5: Liurgical Texts.
(29) Sacraments & Orthodoxy, p 43, 44.
(30) N. & P. N. Frs: Series 1, V. 12. Hom 24 on 1Cor.
(31) Origen: Against Celesum 8 : 57.
(32) “Bereka” بركة means to bless a thing and to give thanks to God for this thing.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/jesus-eucharist/thanksgiving.html
تقصير الرابط:
tak.la/y8xs7gd