محتويات
قلنا أن الإنسان غالبًا ما يخدع نفسه أكثر من خداعه للغير، إذ فيما هو منغمس في أنانيته، طالبًا لذة جسده أو كرامته أو غناه يظن في نفسه أنه مملوُء محبة للغير باذل ومعطاء.
لكي لا ننخدع يلزمنا أن نميز بين النفس core self والأنا ego. فالحب هو رحلة النفس self trip وليس رحلة الأنا ego trip. خلال الحب ننطلق إلى أعماقنا الداخلية لنكتشف جوهر كياننا ونتعرف على مركزنا كأبناء لله وعلى رسالتنا. اللَّه محب البشر يقيم مملكة حبه في داخله، فيتسع الداخل ليضم -إن أمكن- الكل بالحب الإلهي. هذه الرحلة الداخلية تحطم الأنا.
يمكننا أن نقدم علامتين تُحذِّران الإنسان من انحرافه إلى رحلة الأنا:
الإنسان الذي في حبه يريد أن يكون الكل صورة مطابقة له، أي يريد أن يشكل كل من هم حوله حسب رغباته الخاصة الشخصية وميوله، محبته هذه هي نكوص إلى النرجسية مملوءة أنانية وقاتلة. فالوالدان اللذان لا يدخلان مع أبنائهما في حوار محبة بفكر متسع ورغبة صادقة للاستماع إليهم بجدية واهتمام يحطمان شخصياتهم، إذ يريدان من الأبناء الطاعة العمياء لأوامرهما، إنهما يريدان أن يشكلا الأبناء حسب هواهما الشخصي في أنانية. فالأب الذي كان يحلم أن ينال درجة علمية معينة أو يرقى إلى مركز اجتماعي معين وقد نجح أو فشل في ذلك، غالبًا ما يدفع ابنه (أو ابنته) دفعًا لنوال ما بلغ إليه أو فشل في الحصول عليه دون مراعاة ما لهذا الابن (أو الابنة) من شخصيته أو ميوله أو مواهبه أو قدراته. فإن أصر الابن على الرفض حسبه عنيدًا ومتمردًا لا يتقبل مشورة والده المملوءة حبًا، وإن تعثر عن البلوغ اتهمه الأب بالاستهتار أو الفشل أو الغباء، مما يحطم نفسيته ويقتل شخصيته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. يحدث ذات الأمر أحيانًا مع الكاهن أو أب الاعتراف الذي إن أحب طريقًا معينًا كالحياة التأملية الرهبانية أو الحياة العاملة الكهنوتية أو التكريس بطريق أو آخر يدفع أولاده وبناته للطريق الذي يعشقه دون تقدير لمواهبهم وقدراتهم.
يتجلى هذا الأمر بقوة في الحياة الزوجية، إذ كثيرًا ما ما يطلب كل طرف أن يرى الآخر صورة مطابقة له في كل شيء، لا أن يكون يكون مكملًا له، فيحطم الواحد الآخر، بل ويحطم نفسه معه.
ما أروع الاختلاف والتباين خلال رحلة الحب، كل منا يقبل الغير كما هو، وإن ألتزم بتوجيهه إنما حسب ميول الغيرة ومواهبه. بالحب تتحول الاختلافات إلى تكامل وتناغم معًا له جمال خاص، فيه لا يفقد إنسان شخصيته في الغير.
أراد ليو باسكاجليا (5) توضيح هذه الفكرة من خلال الطبيعة فأورد قصة رمزية يعرضها رجال التربية، ملخصها أن طائرًا وسمكة وقردًا وغزالًا قرروا إنشاء مدرسة في غابة، فأقاموا من أنفسهم مجلسًا للتعليم لوضع المنهج. أصر الطائر على أن يتعلم الكل الطيران لأنه عمل نافع وجميل، وأصرت السمكة على السباحة، والأرانب على حفر الجحور burrowing والقرد على القفز بين الأشجار والغزال على الجري. حصلت الطيور على درجة امتياز في الطيران لكنها تعثرت في بقية المواد، وصارت هذه المواد تمثل مشكلة حقيقية بالنسبة لهم. فالطيور جميلة بطيرانها، لكنها إن حاولت حفر جحور تنكسر مناقيرها وأجنحتها، فتضيّع وقتها وتحطم نفسها.
هذه القصة الرمزية توضح عطية الله للخليقة، خاصة للبشر، فلكل إنسان مواهبه وقدراته تختلف عما للغير، هذا لا يقلل أو يزيد من شأنه، إنما يخلق نوعًا من التكامل والانسجام بين البشر.
هذا الروح إنجيلي عبّر عنه الرسول بولس بقوة، إذ يقول: "أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد... أعضاء كثيرة ولكن جسد واحد" 1كو12.
العلامة الثانية للحب الصادق هي اهتمام الإنسان أن يعطي من الداخل متناسقًا مع ما يعطيه في الظاهر. كثير من الآباء يعطون أولادهم بسخاء لكن دون مراعاة مشاعر أولادهم كأن ينعتونهم بالغباء أو الكسل أو الاستهتار أو الفشل. هذه الاتهامات تحطم نفسية المراهقين حتى أن بعضهم يفضل ترك المنزل والحرمان من كل عون مادي من الوالدين من أجل حريتهم وكرامتهم التي هي أثمن من كل شيء. لنفس السبب نجد بعض الأزواج يتهمون زوجاتهم بالجفاف وعدم المحبة، متعجبين أنهم يقدمون لهن كل الإمكانيات المادية والحياة المترفة بفيض دون أن يجدوا مقابلًا لذلك من زوجاتهم... ذلك لأن الزوجات لا يعطين اهتمامًا لهذه العطايا متى رافقتها كلمة جارحة تقتل حياتهن. وأيضًا نجد بعض الزوجات يشتكين رجالهن، لأنهم لا يقدرون تعبهن ومحبتهن. فالمرأة قد تقضي اليوم كله في البيت لتنسيقه وتجميله وتقديم أنواعًا شهية من الطعام، لكن يأتي الزوج ليجد زوجته مرهقة تمامًا فقدت بشاشتها ولطفها. لا تدرك الزوجة أن رجلها يطلب قلب زوجته لا نظافة البيت وتنسيقه وتقديم أطعمة.
إذن البشرية كلها في عوز إلى الحب الداخلي، القلب المتسع، عطاء النفس sel-giving قبل العطاء المادي. أذكر في زيارة لإحدى البلاد بالولايات المتحدة الأمريكية التقيت مع سيدة مصممة على الانفصال لأن زوجها لا يهتم بها وببيته. وإذ عرفت أن زوجها في نفس الأسبوع اشترى قطعة أرض باسمه واسمها معًا بمليون دولار، سألتها: ألا تشعرين أن زوجك يحبك إذ يشتري هذه الأرض باسمك مشتركًا مع اسمه؟ أجابت: "أريد قلبه لا المليون دولا!"، وكانت مصممة على الانفصال، لأن الحب لا يقدر بمال!
الإنسان في عطش إلى حب الغير واهتمامه، فقد جاء في تمثيلية: "مدينتنا Our Town" أن فتاة تدعى إميلي ماتت ثم عادت إلى العالم لتجد نفسها في يوم عيد ميلادها الثاني عشر. وجدت والدتها منهمكة في عمل "كعكة عيد الميلاد"، ووالدها مشغولًا بمكتبه وأوراقه، وأخاها مهتمًا بمصالحه الخاصة... عادت الفتاة إلى الآلهة تقول: "أقصوني بعيدًا عن العالم، فقد نسيت المتاعب التي يعانيها المرء كإنسان بشري، إذ لا يوجد من يتطلع إلى آخر بعد" (6). حقًا لقد كانت الأم مهتمة أن تصنع كعكة عيد ميلاد إميلي، لكن إميلي لا تريد الكعكة، إنما تريد الأم نفسها أن تجلس معها وتسمع لها وتحاورها بالحب وتهتم بها وتكشف عن اعتزازها بها. لا تريد حفل عيد ميلاد بل تأكيد شخصيتها.
هنا يليق بنا أن نقف قليلًا لنرى معاملات رب المجد معنا، كيف يسكب نفسه بالحب فينا، يقدم ذاته مع عطاياه لنقتنيه ويقتنينا أشخاصًا لنا مواهبنا الخاصة. يريدنا أشخاصًا نحبه ويحبنا، نحاوره ويحاورنا، مؤكدًا شخصياتنا كأحباء وأصدقاء. ينادينا بأسمائنا كما فعل مع زكا (لو 19) ويدخل بيوتنا وقلوبنا.
ليتنا نعرف كيف نتأمل مع أولادنا وأصدقائنا وزملائنا ومرؤوسينا والغرباء عنا كما يتعامل السيد المسيح نفسه معنا!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/grow/ego.html
تقصير الرابط:
tak.la/xds5bgd