لا زالت الكنيسة القبطية تحتفظ بالكثير من ملامح طقس الكنيسة الأولى في هذا الأمر، الذي كان يتركز في ست نقاط رئيسية[1]: [الصلاة في المنزل بجوار الجثمان بعد غسله ودهنه بزيت ولفه في كتان أبيض؛ موكب الجناز ويكون في النهار حيث يحملون السعف والمشاعل ويرتل المؤمنون المزامير؛ خدمة الجناز تضم تسابيح وقراءات من الكتاب المقدس ثم تقبيل الجثمان؛ إقامة القداس الإلهي (الأفخارستيا) تعبيرًا عن شركة الأحياء مع الراقدين؛ دفن الراقدين بأقدامهم نحو الشرق كمن ينتظر القيامة بإشراق شمس البرّ عليهم عند مجيئه على السحاب؛ تقديم وجبة محبة (أغابي) في اليوم الثالث كما في التاسع والأربعين حيث يجتمع الأحياء مع الأقرباء يسبحون بالمزامير ويصلون].
هذا هو الهيكل العام لطقس الجناز وما يدور حوله في الكنيسة الأولى، والذي يمكن أن يقال عنه أنه ذات هيكل طقس كنيستنا حتى اليوم:
1. الصلاة في المنزل: في الكنيسة الأولى يُغسل الجثمان ويُرشم بالزيت ويلف بكتان أبيض ليأتي الكاهن ويشترك الكل معًا في الصلاة في البيت، ولا زال هذا الطقس قائمًا في أغلب الأحيان دون الرشم بالزيت. إن ربطنا هذا الطقس بما كان يتم في أيام السبوت في كنيستنا القبطية حيث كانت العائلات تقوم بتنظيف المنزل كله ويستحم أفراد العائلة ليستعد الكل للتمتع بشركة القداس الإلهي، خلال نقاوة القلب ونظافة الجسد أيضًا، نقول بأن هذا الراقد قد استراح كما في سبتٍ منطلقًا نحو السيد المسيح ليراه وجهًا لوجه في الفردوس، ينعم بالليتورچية السمائية والتسابيح الملائكية. وقوف الكل للصلاة حول الجثمان المغتسل والمدهون بالزيت والملتحف بالبياض علامة بقاء شركة الصلاة بين الكنيسة كلها بأعضائها المجاهدين والمنتصرين.
التحاف الجثمان بالكتان الأبيض يرفع مشاعر الحاضرين للتأمل في الغالبين في الرب، المرتدين الثياب البيض (رؤ7: 9)، يعيشون مع الحمل السماوي.
بالنسبة للرهبان إنقطع عنهم طقس غسل جثمانهم بسبب دخول بعض النساء إلى الرهبنة في زي رجال لممارسة الحياة النسكية بقوة وجهاد عظيم[2].
2. موكب الجناز: بحسب الشريعة الموسوية يُحسب الميت دنسًا ومن يمسه يبقى في حالة دنس حتى يمارس طقسًا خاصًا بتطهيره (عد19: 11-22). وعند الرومان كان موكب الجنازة يسير ليلًا، لأنه كان يحمل تشاؤمًا، أما في الكنيسة الأولى فكان موكب الجنازة يسير في النهار، لأننا لم نعد بعد أبناء ظلمة بل أبناء النور (1تس5: 5)، وكان أقرباء الراقدين يرتدون ثيابًا بيضاء (لا زال هذا التقليد يمارس في بعض البلاد الأوربية)، وهو علامة إيمانهم بالحياة الأبدية المبهجة المقدسة في الرب، للأسف صار الأقباط يرتدون في الجنازات ثيابًا سوداء أو قاتمة، خاصة بالنسبة للسيدات...ليتنا نعود لطقس الكنيسة الأولى في هذا الشأن!
كان الموكب مفرحًا، فالأقرباء يرتدون البياض، والكهنة مع الشمامسة والشعب يرنمون مزامير الغلبة والنصرة وينطقون بالتهليلات السماوية، والبخور يرتفع من المجامر، والشموع تنير، والبعض يلوح بسعف النخيل! إنه موكب لإنسان قد إنطلق من العالم -وادي الدموع- ليلتقي بمخلصه ويحيا مع السمائيين.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
3. خدمة الجناز: لا أريد الإطالة في طقس خدمة الجناز حسب الطقس القبطي، إنما نلاحظ فيه الآتي:
أولًا: إن كان هيكل خدمة الجناز يكاد يكون واحدًا للكل، لكن توجد قراءات خاصة بالرجال وأيضًا النساء والصبيان والفتيات كما للشمامسة والكهنة وأيضًا للرهبان...الخ. الهيكل العام يعني مساواة الكل أمام الله كأعضاء في جسدٍ واحد، وإن كان لكل عضو تمايزه الخاص به ليقوم بدور متكامل مع أدوار الآخرين. أما اختلاف القراءات فغايته تقديم تعزيات للمؤمنين خاصة لأقرباء الراقدين تناسب حالة الراقد، نذكر على سبيل المثال:
أ. في جناز النساء تُذكر المرأة التي سكبت الطيب على السيد المسيح، وحسبه البعض خسارة بينما رآه السيد تكفينًا لجسده (مت26). فإن كان رقاد السيدة يفقد الأسرة نوعًا من الأمومة للأبناء أو من العون لزوجها، هذا في نظر الأسرة خسارة لا تعوض، لكن مسيحنا يؤكد أن مقاييسنا البشرية غير مقاييسه، وأحكامنا غير أحكامه.
ب. في جناز الولد تؤكد الكنيسة بقراءاتها اهتمام الله بالأطفال الصغار (مز114)، فيشعر الوالدان أن ابنهما قد انطلق إلى محب الأطفال.
ج. في جنازات الكهنة (أساقفة وقسوس وشمامسة) يحمل الجناز الكثير من التسابيح الكنسية للكشف عن مفهوم الكهنوت أنه وإن كان خدمة وبذل لكنه حياة داخلية سماوية مفرحة. كما تُقدم طلبة باسم المذبح للكاهن، لأن سرّ حياة الكاهن ونجاحه هو ارتباطه بالمسيح الذبيح. أما حمل الجثمان والسير به في موكب داخل الهيكل وفي صحن الكنيسة فيشير إلى تمتع كاهن الرب بالنصرة واستمرارية عمله الروحي الحيّ خلال الصلاة أمام الله من أجل البشرية التي أحبها واشتاق لخدمتها حين كان في الجسد.
ثانيًا: الهيكل العام لخدمة الجناز هو:
أ. صلاة الشكر: في تسليم حقيقي بين يديّ الله صانع الخيرات تقدم الكنيسة شكرها، لأنه أب يعمل دومًا لخيرنا...حتى وإن بدى العمل مرًا في فمنا.
ب. مزمور التوبة (مز50): تستغل الكنيسة هذه المناسبة ليمارس كل عضو توبته، طالبًا مراحم الله الغنية، ليكون له نصيب أبدي مع الرب.
ج. مختارات من المزامير: تمتزج التوبة بالتسبيح والحمد لله.
د. قراءات من البولس (رسائل معلمنا بولس الرسول) ومزمور وإنجيل...هذه القراءات تمثل صلاة لأن كلمة الله يُصلي بها وبها نتقدس (1تي4: 5)، وفي نفس الوقت تمثل تعليمًا وتعزية.
ه. أواشي أو صلوات (أواشي السلامة والآباء والاجتماعات، قانون الإيمان، أوشية الراقدين) مع طلبات من أجل الراقدين.
و. تقبيل الجثمان: تكاد تكون قد زالت في مصر ما عدا بالنسبة للكهنة أو الأساقفة، لكن هذه العادة لا زالت قائمة في بعض الكنائس الغربية.
ثالثًا: إن كانت كنيستنا تتسم بالفكر الإنقضائي الأخروي في كل عبادتها، فتسحب القلب نحو السماء في كل ظرف، فهي أيضًا كنيسة تؤمن بالواقع الذي نعيشه على الأرض. لهذا بينما يمثل طقس "خدمة الجناز" أنشودة غلبة على الموت، لتعلن مع الرسول "أُبتلع الموت إلى غلبة" (1كو15: 54)، لكنها تقدم أيضًا القراءات والألحان بلحن "حزايني"، لتؤكد أنها تشارك أقرباء الراقد مشاعرهم، بسبب ما يعانوه من آلام الفراق، لكن بغير استسلام للحزن ولا دخول في اليأس. ولنفس السبب يُدق جرس الكنيسة بلحن "حزايني".
رابعًا: في أسبوع الآلام (البصخة) يتوقف هذا الطقس تمامًا لتُقرأ قراءات البصخة...لأن أنظار الجميع متجهة إلى ذاك الذي مات من أجل الكل. وفي فترة الخماسين المقدسة إذ تبقى القراءات كما هي تُلحن "فرايحي"..علامة البهجة بقيامة الرب حتى وسط أحزاننا الوقتية.
4. القداس الإلهي: يهتم الأقباط بإقامة القداسات الإلهية ترحيمًا على الراقدين. في الكنيسة الأولى كان الكاهن يذكر أسماء الراقدين من الشعب دون أن يُطلب إليه علامة أبوته للكل وإحساسه أنه من أهل بيت المنتقل.
5. الدفن: لا يزال في كثير من بلدان مصر يُدفن الراقدون وأقدامهم نحو الشرق، كأنهم ينتظرون مجيء السيد المسيح القادم من المشارق[3]. بنفس الفكر يوضع الجثمان أمام الهيكل والقدمان متجهان نحوه أثناء صلاة الجناز.
6. وجبات المحبة: لا زالت هذه العادة قائمة في كثير من مدن صعيد مصر، وهو تقديم وجبات إلى أهل الراقد ليشترك الأقرباء والأحباء معًا في وجبات "أغابي" خاصة في الثالث والأربعين...الخ. ولعل غاية هذه الوجبات الأولى هي علامة الشركة بين المؤمنين، والحب المتبادل، أيضًا لإلزام أهل الراقد أن يأكلوا طعامهم، لأن البعض كان يمتنع أحيانًا بسبب الحزن.
_____
[1] J. G. Davies: A Dictionary of Liturgy & Worship. SCM 1978, p 96-97.
[2] راجع قاموس آباء الكنيسة وقديسيها (إيلاري، أثناسيوس (أثناسيا)، مارينا...الخ).
[3] للمؤلف: الكنيسة بيت الله، 1979، ص 78.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/funeral/ritual.html
تقصير الرابط:
tak.la/2khax57