إن دور الروح القدس في التوبة هو أنه يبدأ في إرسال إشارات لذلك الإنسان الذي يحاول الشيطان أن يُخفي عنه حقيقة الرجاء. وتلك الإشارات قد تتخذ أشكالًا وأنماطًا مُتعدِّدة. ولكنك دائمًا ستجدها تُردِّد في داخل قلبك تلك الكلمات:
أنت محبّوب منذ الأزل..
أنت ثمين بقيمة الدم الذي سُفِك من أجلك..
أنت ابنٌ للنور..
أنت وليد القيامة..
أنت مخلوق للأبديَّة..
أنت الصورة البهيَّة لله على الأرض.
انهض متمسكًا بالرجاء في الرب،
انْحَنِ أمام روح الحق،
اقبل مشورته من أجل التوبة،
تواضع تحت يد الرب،
حتّى تحملك يداه وتمسكك يمينه المُمَجَّدة بالقوَّة.
وهكذا تجد النفس أنَّ أشعة الرجاء تعود مرّة أخرى بعد الادَّعَائات الكاذبة التي كان يخفي بها الشيطان، عن النفس، حقيقة الرجاء، تلك الحقيقة القادرة أن تذيب قيود الخطيئة كما تذيب الشمس ذرات الجليد المُتجمِّدة على أطراف أوراق الشجر، وقت الشروق.
ويبدأ الروح القدس يُنْعِش ذاكرة الإنسان الروحيَّة، من خلال الخبرات التي دوَّنها التاريخ المسيحي عن خطاة تحرروا من قبور الشهوة وانطلقوا في مراعي الروح نحو شمس الحياة السرمدي.
فمن ذا الذي طرق أبواب مراحم إلهنا الحنون، وتركه خارجًا يعاني من الخوف والوحدة..
من ذا الذي تضرَّع فلم يجد أجناد ملائكة من نور يحشدها الرب ليدافع بها عن تلك النفس الواحدة التي لا يعبأ بها أحد..
من ذا الذي تحرَّك في قلبه الشوق والحنين إلى الله، ولم يبادله الله الشوق أضعافًا مُضَاعَفة..
من ذا الذي رفع جرحه الدامي الذي انجرح به في معركة الحياة إلى العلاء يترجَّى الطبيب الأعظم، ولم يجد شمس البرّ يحمل له الشفاء على جناحيه (ملا4: 2)..
من ذا الذي أطلق صراخه إلى السماء «يا رب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبديَّة عندك؟» (يو6: 68) ولم يجد مسكن الرب مُعدًّا ووليمة الرب مُهيَّأة وكلمات الحياة سابحةً إليه، لتستقر على قلبه..
من ذا الذي عاد من كورة الخنازير بعد أن بدَّد ميراثه، إلاّ ويجد وجه الآب يُلاقيه بلهفة الشوق على قارعة الطريق، ليأخذ بيده ويُجلِسه على مائدة الغفران ويُعيد إليه خاتم البنوَّة..
من ذا الذي لمس هُدْب ثوب الرب، ولم تسرِ فيه قوَّة لطرد النجاسات إلى خارج..
من ذا الذي انطرح على أقدام الرب، وهو مُدَان من العالم ومجروح من الجميع، إلاّ ويجد الرب يُدافع عنه ويُبكِّت دائنيه، بل ويُطلقه بغفران وسلام وقوَّة ومعونة..
من ذا الذي يتفكَّر في هول الخطيئة، ويتناسَى أن هناك بحر النسيان الإلهي حيث تُطرَحُ الخطايا والآثام ولا تعود مرّة أخرى، لأن الرب قد سُرَّ بطرحها..
من ذا الذي يتخبط في عماه الروحي، إلاّ ويجد يديْ الرب تخلق له بصيرة جديدة، فيبصر بالإيمان ما لم يبصره يومًا بالعيان..
حقًا من ذا الذي يحبّ الرب أكثر ممَّا يحبّه الرب.
إن الكنيسة قد رصدت لنا نماذج لخطاة كانوا قد احترفوا الخطيئة، ولكنهم بالرجاء والثقة في الرب والاستسلام الكامل لمشورة الروح القدس، قد صاروا قدوة حيَّة تشهد أن الخطيئة ليست عائقًا طالما يتبعها توبة، بل إن الروح قد يستخدمها لإشعال توبة أشدّ حرارة وقيامة أشدّ رسوخًا.
لذا يقول يوحنا السينائي:
(لقد) طوَّبتُ الذين سقطوا وناحوا
أكثر من الذين ما سقطوا ولا ناحوا
ولعلنا نجد في سيرة موسى اللصّ وأغسطينوس الفيلسوف ومريم المصريَّة وتاييس الخاطئة، نماذج لقوَّة التوبة وقدرتها أن تجوز بالنفس جبال الخطيئة مهما تعالت، وتقتلع جذور الشر مهما توغَّلت في قلب الإنسان. وهنا شهادتنا ليست شهادة لقدرات بشريَّة خاصة أو مَلَكَات تميَّز بها هؤلاء عنَّا، ولكنها شهادة على قدرة الروح القدس غير المحدودة على انتزاع جديان اليسار وتحويلهم إلى حملان يجلسون عن يمين الآب. كما أن تلك الشهادة تمتد لتشهد لنا عن باب إلهي لا يُغلَق أبدًا في وجه طالبيه. تشهد على قلب متسع لكل البشريَّة يتناسَى قُبْحَ الماضي وقسوة الأيام السالفة، حينما تتوب النفس وترجع. إنها تشهد على صدق دعوة المسيح القائل: «مَنْ يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجًا» (يو6: 37). كما تشهد أيضًا عن ساعة متأخرة، قد تكون الحادية عشر، فيها يُنتشَل الكثيرون من لهب الدينونة ليسكنوا على أنهار الروح، يرتشفوا من الحبّ الإلهي ويسكروا به.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/toward-repentance/light.html
تقصير الرابط:
tak.la/v3dv92a