أبولّلونيا أخت إليوس فتاةٌ في العشرين من عمرها، نحيلة الجسد، مُشرِقَة المُحيّا، خمريّة الوجه من لفحات شمس الإسكندريّة، ذات ابتسامة هادئة لا تفارق وجهها أثناء الحديث. أضحت أبولّلونيا بين عشيّة وضحاها ربّة المنزل بعد وفاة والدتها بعد صراع دام عدّة أشهر مع المرض. كانت تقضي يومها بين شراء طلبات المنزل من الأجورا وبين التنظيف والطهي، ولكنها أيضًا كانت قارئة جيّدة لكلّ برديات إليوس وأفبولوس، فقد تعلّمت منذ صغرها، اليونانيّة، من إليوس. ولكنها في الفترة الأخيرة كانت تميل إلى العزلة وحدها في حجرتها، وكان هذا الأمر مُلفِت للنظر وخاصة عند إليوس الذي اعتادها تجالسه ليل نهار حينما يعود إلى البيت.
كان إليوس قد فاتحها منذ عِدّة أيام خلت بمطلب سوسينيوس للارتباط بها، وهو أحد الدارسين للطبّ في الموسيون والذي ورث عن والدة عشرات الأفدنة في جنوب الدلتا من أجود الأراضي التي تُدرّ عليه دخلًا كبيرًا. كان رفضها الحديث في الأمر مُحيِّر لإليوس وأفبولوس، فالزواج من أحد الأغنياء والمثقّفين مطمح الفتاة السكندريّة إلاّ أن أبولّلونيا رفضت الأمر برمّته. أعطاها إليوس مُهلة للتفكير، والمهلة تنتهي اليوم.
دلف إليوس إلى المنزل ونادى قائلًا: أبولّلونيا أين أنتِ؟
- لحظة واحدة..
- أنا قادم إليك..
دخل إليوس الحجرة فوجد أبولّلونيا تنهض مسرعة بعد أن دسّت شيئًا ما تحت مرقدها. بدا إليوس وكأنّه لم يرى شيئًا، وداعبها قائلًا: كيف حال قطتي الصغيرة؟
- بخير حالٍ. وأنت كيف كان يومك؟
أحمد الآلهة. وقف إليوس مقابلها وهو يقول بصوتٍ خافتٍ: هل توصّلت إلى قرار؟
- بشأن ماذا؟
- الزواج من سوسينيوس
- أنا لا أُفكّر في هذا الأمر الآن؟
- ولِمَ لا؟
- لم يحن الميعاد بعد؟
- أبولّلونيا، صارحيني، هل هناك آخر؟
- بالطبع لا
- إذًا لماذا الرفض بالرغم من توافر كلّ الصفات التي تطمح إليها أيّة فتاه في المدينة، في سوسينيوس؟؟
- فقط لا أريد الارتباط الآن، فأنا أرعَى شؤون البيت، ولا أستطيع أن أتركك أنت ووالدي دون عونٍ.
- لا تشغلي بالك بنا
- لنؤجّل الأمر إذًا..
- وماذا أقول لسوسينيوس؟
- اعتذر له وبلّغه أمنياتي أن يلاقي الفتاة المناسبة له.
لم يقتنع إليوس بكلمات أخته، ولم يُصدِّق أنّ رفضها الزواج وعزوفها عن الرجال بسبب رعايته ووالدهما. الأمر أكبر من هذا!!
خرجت أبولّلونيا لتُحضِّر طعام الغداء، بينما بدأ إليوس في تفتيش حجرتها، ونظر تحت المرقد فرأى قصاصة من البردي ملفوفة بعناية في قطعة قماش بيضاء، أخرجها وفردها، وبدأ يقرأ:
فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،
وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا،
قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ،
وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ، وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ،
بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ.
فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ،
الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ، لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ.
لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِل، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هذِهِ الأُمُورِ
يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ.
فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.
لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلًا ظُلْمَةً، وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ.
اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ.
لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرّ وَحَقّ.
مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ.
وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا.
لأَنَّ الأُمُورَ الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرًّا، ذِكْرُهَا أَيْضًا قَبِيحٌ.
وَلكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ.
لِذلِكَ يَقُولُ: اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ
فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ.
أبولّلونيا، صرخ إليوس..
جاءت أبولّلونيا مسرعة.. دخلت إلى الحجرة ووجدت أخيها مُمسكًا بالبرديّة..
نظر إليوس إلى وجهها نظرة حادّة، نابتة عن وجهٍ احتقن بحمرة الغضب، وصاح قائلًا: ما هذا؟
- إنّها برديّة أعطتني إياها صديقةٌ لي..
- أتعرفين ما الذي فيها؟
- بالطبع..
- إنه نصٌّ للمسيحيّين..
- أعرف
- وهل قرأته
- مرارًا
- لماذا؟
نظرت أبولّلونيا مباشرةً في عينيه وأجابته بنبرة هادئة:
- لأنّني مسيحيّة.
نزلت الكلمات على إليوس كالصاعقة. اكفهرّ وجهه، وتحجّر الكلام في حلقه، وتسمّر في مكانه وكأنّها قد ألقت عليه بتعويذة سحريّة ليصير كومةً من حجارة.
بعد لحظات استجمع فيها قواه ونهض من سبات صدمته وأفاق من ترنُّح خمر كلماتها، قال لها: متى حدث هذا؟
- منذ عِدّة أسابيع
- وهل تركت عبادة سيرابيس إلهنا؟
- إنّ الإله ليس قطعة من الحجر نصنعها ونرعاها -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولكنّه خالقٌ كائنٌ قبل الأزمنة الأزليّة يرعانا ويحمينا ويقودنا إلى ملكوته الأبدي.. إلهنا قد تجسّد حُبًّا بالخليقة التي لمسها الموت والفساد فتغرّبت عن خالقها الحقيقي وتعامت عن حضوره في الكون فخلّقت آلهتها وتعبّدت لها وهي ليست سوى قطعًا حجريّة صامتة صمت الموت..
كانت كلماتها تحمل من الجرأة ما لم يعهده، فهوى بكفّه على وجهها وكأنّه استجمع قوى سيرابيس وغضبه ليكيل لها تلك الصفعة..
سقطت على الأرض وهي تنظر إليه بأعين يمتزج فيها القوّة والتحدّي بالحنو والرقّة، وقالت له:
إنّ الإيمان حريّة، والحريّة عطيّة الآلهة، فإن كانت الآلهة تهبنا تلك الحريّة، فلماذا ترفض أن أمارس حريّتي في اختيار عقيدتي؟؟
- إنها حريّة جوفاء، ستلتهم حضارتنا وثقافتنا وتراثنا، مثل تلك الحريّة لن نسمح بها أبدًا.. أبدًا..
- وهل تخافون من المسيحيين البسطاء المُضطَّهَدين العُزَّل الذين لم يحملوا سلاحًا يومًا لمواجهة حملاتكم المحمومة عليهم وإغارتكم على بيوتهم وأنتم تعملون النهب والسلب وتُصدِّرون لهم المهانة والسباب..
- إنّهم حُثالة المدينة..
- هل لأنّ بهم الفقراء والعبيد وهم يتمتّعون بنفس حقوق السادة والأغنياء؟
- لا مساواة بين السادة والعبيد.. فالسيّد يبقَى سيّدًا والعبد يبقَى عبدًا.. المساواة تعني خراب المجتمع..
- وماذا عن الإنسان؟ ألا يعنيك خراب الإنسان؟
- إنّ العبيد مخلوقون لمثل هذا العمل..
- هل تُصدِّق هذا؟؟ ألم تأتني يومًا لتقول لي أنّ عبدة الثري لوكيوس تمتلك قدرًا هائلًا من الثقافة ورجاحة العقل وعزّة النفس!!
- إنّها استثناء؟؟
- أو تدري أنّها مسيحيّة، وأنّها تثقّفت في مدرسة الإيمان، وامتلكت عزّة النفس حينما وقفت جنبًا إلى جنبٍ بجوار السادة والأغنياء!!
- إلى ما ترمين؟؟
- البشرُ عجينةٌ واحدةٌ، خليقة الله الحسنة على صورته ومثاله، إنْ نالوا حريّتهم ظهرت قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم.. لهذا جاء المسيح ليُحرِّر البشريّة.. إنْ تحرّرنا بالابن صرنا أحرارًا بالحقّ حتّى إنْ كان البعض موثقين بصكّ عبوديّة البشر.
- وكيف يتحرّر من هو عبدٌ لصكٍّ في يد سيّده؟؟
- أتسأل هذا السؤال وأنت المُتأدّب بالعلم والفلسفة؟؟ فالحريّة حُريّة القلب وانطلاق الروح وتطهُّر النفس وإن كان الجسد مستعبدًا.. الحريّة تجديد للسلوك والوعي والبصيرة.. الحريّة هي العطيّة الكامنة في قلب كلّ بشرٍ، تتلمّس ما يُحفّزها لتتفجّر حياةً في مسالك البرّ ودروبه..
بدا على وجه إليوس الحرج من كلمات أبولّلونيا، ولكنه أخفاه بقوله: أتتفلسفين الآن!!.. عليك مراجعة نفسك في هذا الأمر.. إمّا العودة لديانة الآباء وإلاّ..
قاطعته أبولّلونيا: وإلاّ ماذا؟؟ هل ستقتلني؟؟
نظرت في وجهه نظرة صارمة وهي تقول له:
مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟
أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ.
قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ.
وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا.
حوَّل إليوس عينيه عن أبولّلونيا التي بَدَت وكأنّها مالكةُ الحقّ وهو المُتّهم. خرج إليوس من البيت متوجّهًا إلى الموسيون، فهناك يجد من رفقة العلم ما يجعله ينسَى همومه وأتعابه. شعر أنّ فكره أشلاء متناثرة أشبه بأشلاء أوزيريس التي تنتظر إيزيس لتجمعها من الأقاليم لتعيد لها الحياة!!
تلك هي أوّل مرّة تمتد فيها يده على أخته أبولّلونيا. بدأ يتذكّر كيف كانت تحبّه وتحنو عليه وتناصره بل وتخفي عن والديها أخطاء مراهقته.. كلّما كانت أطياف الذكريات تضرب بأوتادها في رمال عقله، كلّما كان يشعر بالألم والأسى لما بدر منه تجاه أخته.
كما كان يؤلمه أيضًا أنْ ينفعل إلى تلك الدرجة وهو الذي كان يتدرّب على ضبط النفس كأحد ثمار المعرفة الفلسفيّة الحقيقيّة.. كانت مبادئه القديمة تتعرّض لهزّات عنيفة.. شعر أنّ كلّ شيءٍ يتهاوى..
كان يتملّكه شعورٌ بأنّ المسيحيّة تلاحقه.. تحاصره.. كانت الصور تتواتر على ذهنه المُنهك، ما بين برديّة إنجيل المسيح ليوحنا.. وجه الكاهن وكلماته.. أوجه المسيحيين المُتعبّدين.. وجه كليمندس.. كلمات البرديّة التي وجدها في غرفة أبولّلونيا.. كلمات أبولّلونيا وصلابتها ومنطقها.. كانت رأسه تدور.. رفع عينيه إلى أعلى وهو يقول:
ماذا تريد منّي يا يسوع الناصري
إليك عني..
اتركني وشأني..
لماذا تلاحقني هكذا..
كانت قدماه تتحرّكان نحو الموسيون بينما كان مصيره يتحرّك بعيدًا نحو السرّ المكتوم منذ الدهور..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/light/confrontation.html
تقصير الرابط:
tak.la/9mt6cnw