دخلت المسيحية إلى العالم كديانة سماوية موحى بها من الله، ووهبت للعالم بالمسيح يسوع ربنا ابن الله المتجسد الراعي والفادي والمخلص، وهكذا لم تأت كمنهج فلسفي أو نظري بل كحياة الله المنسكبة وسط هذا العالم.
ثم أرسل الرب رسله "ليكرزوا" لا ليشغلوا كراسي الأستاذية في المدارس الفلسفية، فالمسيحية هي "الطريق" (أع 9: 2) ولم تكن فكرة أو أيديولوجية أو منهجًا فلسفيًا يُضاف إلى المذاهب والنظريات.
لقد وجد الرسل والآباء هجومًا لاهوتيًا وفلسفيًا، ووجدوًا شكوكًا وعداوات، وهكذا واجهوا الفلاسفة الوثنيين والحكام من أجل الحفاظ على الإيمان، إلا أن الرغبة في تعميق عقائد الإيمان - عن غير قصد الرد على الهراطقة - ظهرت جليًا في معظم الآباء ومنذ القرن الأول، بدافع من الفهم والاستيعاب وأيضًا بدافع شرح العقيدة للشعب.
ومن هنا يتضح التأثير الذي جرى على نمو "العلم" اللاهوتي والدفاع عن الإيمان قبالة الهجوم المضاد على المسيحية، فكثرت الكتابات العقيدية Dogmatic والكتابات الدفاعية Apologetic لمقاومة البدع وإعلان الإيمان الحقيقي.
وعندما نأتي إلى الآباء الأفارقة نجد أن العلامة ترتليان والقديس كبريانوس أسقف قرطاجنة وأرنوبيوس ولاكتانتيوس من أشهر آباء أفريقيا الذي أعطوا كنيستهم الكثير ودافعوا عن الإيمان بكل قوة واقتدار، واثروا الأدب المسيحي الأول.
ومن بين من أنجبت افريقيا، كان صاحب هذه السيرة العلامة ترتليانوس الأفريقى، ولسنا ننكر أننا سنستفيد بملامح فكره وبعض كتاباته كعالم وكاتب كنسي سقط في بعض الهرطقات، مثله في ذلك مثل أوريجين السكندري، ويقول فنسان دي لورين انه كما كان أوريجين يحتل المكان الأول بين علماء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية، كان ترتليانوس يحتل المكان الأول بين علماء الكنيسة الذين كتبوا باللاتينية.
ولا يوجد من العلماء من كان في نفس مستواه ودراسته وعلمه، فقد فهم الفلسفة ببراعة فائقة، وكان له إلمام بكل مدارسها وتواريخها وفلاسفتها *(مجلة الكرازة - السنة التاسعة - 2يونيو - سنة 1987م - العدد 22).. وكان عجيبًا في قوته على الإقناع والحجة والمحاماة، مدافعًا ومجادلًا معتبرًا أن الله هو القاضي والإنجيل هو قانون المسيحيين والعقيدة هي الدستور والشريعة.
واستطاع أن يفحم كثيرًا من المبتدعين الغنوصيين والوثنيين واليهود وإتباع مرقيون وهرموجينيس وغيرهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ووضع مؤلفات كثيرة، إلا أنه انحرف عقيديًا وتأثر بأفكار المانيين، فعلى الرغم من علمه ونسكه وقع في البدعة، وكان القديس كبريانوس يقرأ له دومًا ولا يدع يومًا يمر دون أن يقرأ شيئًا من كتاباته، وكان يقول في أغلب الأحيان لتلميذه "أعطني المعلم" (1) مشيرًا بذلك إلى ترتليان.
وقال عنه جيروم المؤرخ: "ترتليان الذي ليس من الكنيسة" (2) وتحدث القديس هيلارى أسقف بواتييه بكل أسى عن أخطاء هذا العلامة وكيف انحدرت قيمته العلمية وهو أعظم مفكر كنسي كتب باللاتينية في جيله، ولكن الكنيسة حرمته، ففقد سمعته كعالم كنسي، وأصبح معدودًا بين الهراطقة والمبتدعين.
لقد أردنا أن نعطى اهتمامًا بهذه السيرة لنتفهم جو الكنيسة الأولى، ونعرف كيف شهدت للحق حتى وسط الانحرافات الهرطوقية، غير ملتزمة بعصمة أحد بصفته الشخصية، وغير مؤمنة بآراء ذاتية، بل بالتقليد الكنسي الشامل.
إن الكنيسة لا تجامل الهراطقة ولا تراعى الوجوه، بل تواجههم بكل قوة، بالجدل والتعليم وبالنصح وبالحرمان، وتقف حارسة للإيمان المسلم لنا مرة من القديسين، وإن كانت مترفقة مع الخطاة لكنها غير مهادنة للهراطقة، تتنقى من خمير البدع الفاسدة، وتسهر لئلا يأتي مبتدع ويلقى بزوان البدع في حقل التعليم.
وبالجملة يعتبر العلامة ترتليان من "الكُتاب الكنسيين" الذين لم تُعتمد كتاباتهم كمصدر للتعليم مثل كتابات آباء الكنيسة، ولكن كل ما يتفق مع عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية ومنهجها في العبادة والحياة الروحية والتوجية المسيحي في السلوك، مما هو موجود في كتابات الكتاب الكنسيين، يقبله ضمير الكنيسة كشرح وامتداد وتكميل لتعاليم وكتابات الآباء، أما الآراء الخاصة بالكتاب الكنسي في غير ما يمس العقيدة والعبادة والروحانية فهي تبقى رأى الكاتب الخاص.
أقدم هذه النبتة المتواضعة "سلسلة آباء الكنسية - أخثوس ΘΥΣΧΙ" شاعرًا بصغرى في جنب مواكب العلماء والأخصائيين الذين قدموا حياتهم في خدمة التعليم وأعطوا المكتبة العربية المسيحية، وما نبغيه من إصدار هذه الموسوعة الآبائية هو الإسهام الأخوي المتواضع في خدمة محبي علم الآباء من رتب وطغمات كنيستنا المحبوبة.
ذاكرًا تشجيع ومحبة أبينا المطران نيافة الأنبا بيشوي الذي يحرص دائمًا على ازدهار دراسة العلوم اللاهوتية والمسكونيات، وكذلك مساندة وصلوات أبينا الحبر الجليل الأنبا بنيامين النائب البابوي للإسكندرية الذي يرشدنا ويقودنا في هذه المسيرة الآبائية.
ولا ننسى مساعدة نيافة الحبر الجليل الأنبا ديسقورس ومجوداته السخية في هذا العمل وكذلك قدس الأب الموقر القس أثناسيوس ميخائيل مدرس التاريخ الكنسي من أجل حثه لنا على الاستمرار.
وليعوض الرب كل من له تعب وشركة في هذا العمل بصلوات أبينا البابا البطريرك الأنبا شنوده الثالث -أطال الله حياته- وليكن هذا العمل لمجد الثالوث القدوس المبارك.
عيد الميلاد المجيد
1711 للشهداء
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/tertelian/intro.html
تقصير الرابط:
tak.la/bfdq2b8