إن حياة الكنيسة بكل خدماتها هي الوسط الحقيقي للخدمة الروحية والتربوية، وهى خدمة دائمًا متجددة تتقدم إلى الأمام لأن غايتها هي "الشخص person" وخدمة الكيان الإنساني.
والخدمة المتكاملة خدمة كلية شمولية، بمعنى أنها تشمل "كل إنسان وكل الإنسان" فهي ليست قاصرة على خدمة التعليم ولا يمكن أن تحد أو تحجم في اجتماع ما أو فصل دراسي، أو تختزل في حدود ضيقة لتصبح "مجرد اجتماع" دون بقية المجالات الأخرى الأكثر اتساعًا، التي تشمل الأخوّة Fellowship والشركة Participation والتي تتحقق خلال الأنشطة الكنسية المتنوعة.
لذا ينبغي أن نهتم بخدمة التعليم كخدمة أساسية في الكنيسة، دون أن نترك أو نهمل خدمة الأنشطة، لان خدمة الأنشطة هي مدخل وسبيل مؤدى إلى خدمة التعليم، فهي ليست ليست هدفًا في ذاتها بل هي وسيلة وشبكة لاصطياد نفوس كثيرة، لتندمج في الحياة الكنسية بكافة قاماتها.
وبدون الخدمة المتكاملة التي تضمن خدمة التعليم وخدمة الأنشطة معًا، نكون قد حددنا التربية الكنسية وحصرناها في صورة فصول واجتماعات، وبذلك نضعف مفهوم الشركة الكاملة (كونوا معًا وكان عندهم كل شيء مشتركًا) أع 44:2 وتشابه خدمة التربية الكنسية التعليم المدرسي الرتيب في مرحلة إعدادي وثانوي، وتشابه التعليم الجامعي في خدمة اجتماعات الجامعة والخرجين.
لا يكفى أن نقدم خدمة التعليم فقط، بل ينبغي أن نبرز حيوية الخدمة وايجابياتها من خلال ما يقدم من أنشطة كنيسة متكاملة، فالخدمة التي بلا أنشطة متنوعة خدمة عاقر لا تلد، تضيع أدراج الرياح.
الخدمة المتكاملة تحتضن الجميع أطفالًا وفتيانًا وشبابًا (كل إنسان) تتقدم بهم في نماء يغذى ويسمن نفوسهم، خلال عمق حياة الشركة الجموعية التي تتحقق خلال خدمة الأنشطة كوسط أصيل وحقيقي للتهذيب والتعليم العملي والتوجيه السلوكي الذي يعبر بالجميع من مرحلة تقدم روحي إلى مرحلة أخرى أكثر تقدمًا، والتي بدونها يكون الفراغ القاتل للقدرات والطاقات هزيمة الحماس، والتي خلالها تكون المواهب والميول وزنات مباركة نتجر فيها ونربح لحساب مجد المسيح.
وتاريخ الكنيسة يشهد أن المسيحي يبلغ قامته عبر تقدمه ونموه في كل مرحلة من حياته ممتدة في سلسلة متواصلة من البناء الروحي والتعليم الذي يجد تطبيقًا له في العمل الجموعي المشترك، والذي يتجسم خلال للأنشطة المتنوعة كنموذج للتربية المسيحية عبر كل الأحقاب.
وبالرجوع إلى الذاكرة الآبائية نؤكد أن البناء الروحي يتحقق عن طريق الخدمات المتكاملة التي تشبع كل الشخصيات حسب أنماطها النفسية المختلفة، هادفة خلاص الجميع، لذلك يقول القديس كلمنضس السكندري أن الله مربى:
"استغل كل ما في الشخصية من أنماط نفسية ليطوعها للخلاص الذي دبره الآب من قبل تأسيس العالم".
لقد سبق آباء الكنيسة عصرهم وجيلهم، ففهموا كمرشدين روحانيين وعرفوا جيدًا طاقات وإمكانيات كما وضعفات وقصور الطبيعة البشرية، مدركين حدودها ومن ثم قدموا خدمات متنوعة من اجل أعضاء حية نامية.
لذلك لابد من دراسة تصنيفات الأنشطة المتنوعة بفهم وعمق ليرتبط محتواها ويتكيف مع السن والحاجة، حتى لا تخمد الطاقات وتضعف القامات، بل تنمو وتثمر بشكل جيد وسوى، يتناسب مع القطاع الذي تقوم بخدمته.
والسبيل الوحيد لتحقيق خدمة متكاملة هو حيوية الأنشطة وتهديفها، لتستمر كرحلة تستغرق العمر كله، وكوسط خدمي تربوي يجعل الإنسان كاملًا، بلوغًا إلى قياس قامة روحانية.
ولعل السبب في تناقص الأعداد في خدماتنا الكنيسة، هو اعتبارنا أن الأطفال وحدهم هم محل اهتمامنا التربوي والتعليمي، فتتناقص الأعداد في مرحلة إعدادي، وتتضاءل بالأكثر في مرحلة ثانوي وهكذا...
أن خدمة الفتيان والشباب على وجه الخصوص يتوقف نجاحها وإخفاقها، على خدمة الأنشطة المتكاملة باعتبارها وسط ورسالة، نقدم بها وفيها ومن خلالها الحب العملي وحياة الشركة الفعلية وتذوق عذوبة الاختبار الكنسي كنموذج حي للحياة المسيحية المعاشة.
لقد فشل النمط المدراسي في أن يصنع مسيحيين، فلا أساس للنمائية والتنشئة المسيحية، دون خدمة متكاملة حافلة بالأنشطة المدروسة والهادفة، فليست خدمة التربية الكنسية مجرد وعظًا ونفحًا وتعليمًا للمبتدئين بل تأتى الأنشطة وميادين الخدمة المتنوعة في بداية خطتها ومنهجها، إذ أن التربية المسيحية تربية مثل أي تربية أخرى تستخدم الطاقات والإمكانات والمواهب العقلية والفكرية ومعطيات علم النفس والعلوم الإنسانية.
فالشباب والبشر عمومًا كائنات ديناميكية (فعالة) في حركة تقدم ونمو دائم ومستمر، فهم أما ينمون أو يموتون!! لكنهم أبدًا ما يبقون ستاتيكيين statics بلا فاعلية، والشباب يتعلم ويتغير ويتمثل ويتفاعل ويتكيف وينمو عاطفيًا ومعرفيًا وأخلاقيًا نحو الكمال والشخصية السوية.
لذا تحتاج قيادة الأنشطة الشبابية إلى خدام مفعمة قلوبهم بالحب، حريصة على جموعية الشركة، حريصة على التفكير، والترتيب والأعداد لكي ما يبنى كيان الشباب القبطي في عمق ونسيج حياة الكنيسة التي لا خلاص لأحد خارجها.
فتتحول البرامج الحياتية والخدمات الليتورجية إلى شركة الإيمان الحي، خلال الأنشطة المتكاملة التي لا تهمل ولا تقلل من شأن خدمة التعليم، بل تكملها وتعيشها مختبرة في نفوس الشباب والشابات، الذين يجدون أنفسهم بلا مكان في الكنيسة عندما نهمل زوايا وجوانب كثيرة تشبعها الأنشطة الكنسية، فكيف إذن يؤمنوا أنهم هم الكنيسة!!
والتطوير يتم من خلال توسيع نشاط الخدمة خارج حدود المكان والفصل والاجتماع إلى آفاق حياتية رحبة [الخلوات الروحية - المعسكرات - المخيمات الكشفية - حلقات درس الكتاب الجماعية - الرحلات الروحية الهادفة - الندوات المنظمة - الدراسات المشبعة].
والتي تتطلب جهدًا أكبر ووقتا أطول وتفكيرًا أعمق ومجهودًا وعطاءًا أكثر، وهنا تنفجر الطاقات في طواعية بسلطان الحب ومرونة العطاء..
ولا يجانبني الصواب عندما أقول أن خدمة الوعظ لا تحتاج إلى جهد وتدابير أو بذل وعطاء في الوقت والطاقة والترتيب بقدر ما تحتاج خدمة الأنشطة، التي لا تتأسس جذورها إلا في قلوب تقية لخدام أمناء باذلين، مؤمنين باحتياجات الشباب.
فالشباب هم كنيسة الحاضر وكنيسة الغد التي يجب أن تكون كنيسة قوية مرهبة كجيش بألوية وسط تيارات وضغوط معاكسة، ويجب أن تتسلم إيمانًا حيًا معاشًا على مستوى التطبيق العملي كخبرة وعقيدة.
لذا تحتاج خدمة الأنشطة إلى التدرج خطوة وخطوة، لتحقق خدمة متكاملة بحنو بالغ من جانب الخادمين نحو من يخدمونهم، في دراسة وطول أناه ومثابرة مترفقين بهم، ومقدمين لهم نموذج القدوة المسيحية الإنجيلية بوجه يطفر بالفرح نحو حياة روحية تتأصل في وجدان شبابنا وأخوتنا، خلال التفاعل التربوي التطبيقي المسيحي في مجالات الأنشطة.
كلنا معًا ننمو نتقدم إلى ما هو قدام، والنمو الروحي في الحياة المسيحية اتصالي علاقي Relational تلامسي وشخصي، هذا التلامس والاتصال يتأكد ويتحقق بالأكثر خلال اُطر أنشطة الكنيسة، وتفشل جهودنا وتضيع سدى أن لم تتكامل خدمتنا لتضم البعيدين وتجعل منهم قريبين، ليس هذا فقط، بل وتجعل من القريبين خادمين وعاملين، وهذا لن يكون إلا في عمق الشركة والحب والانسكاب وروح الأغابي `agapy والبناء الروحي والنفسي للذين نخدمهم.
وأكرر أن النمو الروحي الفعلي يأتي ويمتد من داخلنا ومن عمق الشركة وعيش العبادة والشبع بلبن أمومة الكنيسة التي تطعم وتنظف وتربى وتحن على أولادها عبر عطاء كثير يلمسه الشباب في أنشطة بنائية كثيرة، تحفظه من متاهات الفراغ الدنس والانحرافات المضيعة، يتواجد خلالها في المحيط الكنسي والتعايش المسيحي.
وخلال خدمة الأنشطة، نستطيع أن نفهم الشباب ونتعرف على احتياجاتهم وندخل إلى قلوبهم وحياتهم لنقف على احتياجاتهم وندخل إلى قلوبهم وحياتهم لنقف على ظروفهم ومواهبهم وإمكاناتهم، فالذي لا يعرف كيف يجذب الناس لا يستطيع أن يصنعهم!!
وتنوع الأنشطة يتماشى مع تنوع المواهب، ويساعد على إشراك الشباب إشراكًا فعليًا مع استثمار كل الإمكانيات المتاحة من طاقات بشرية ومقدرات مادية في ايجابية المحبة.
تحتاج الخدمة المتكاملة إلى مجهودات باذلة وقلوب حارة ملتهبة وعقول مستنيرة واعية، تكرس أوقات وطاقات من اجل السهر على روحانية الأنشطة وسلامة قصدها، ولنتعلم من غيرة أهل العالم الذين يعطون [اللاشيء] كل شيء!!
فلا يمكن أن تتم هذه الخدمة المتكاملة بمجرد التعلم حول المسيحية بل بالاندماج الفعلي والتكامل الحقيقي في كنيسة حية بأنشطة متنوعة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فنحن لا نعمل مع آلات مبرمجة بل مع بشر، لا يحتاجون إلى لحظة لكي يصبحوا مسيحيين بل إلى حياة بأكملها، بدايتها المعمودية لكنها ليست نهايتها، رحلة إلى حياة تتم في صميم شركة الإخوة، ولا تتم أبدًا في الانعزالية والفردية، بل خلال حياة الشركة التلقائية.
لذا يلزم تشجيع وتحفيز الوعي بالأنشطة كوعاء تربوي، حتى لا تكتسي عيون البعض بضبابية مؤداها أن هذه الأنشطة أعمال كمالية لا ضرورة لها أو أنها خدمات لا تروق لهم، وعندئذ يتركوا الشباب إلى المصير المجهول فنفقدهم، وهم معنا أشجار التين المحملة بالثمار.
واعتبار الأنشطة أعمال لا ضرورة لها، يحجم خدمة الشباب ويجدها في الاجتماعات في حين أن الخدامات المتنوعة تسمح بنمو مسيحيين كاملين [Οι τελιοι χρισταυαι]، لذلك يقول القديس باسيليوس عن رسل المسيح:
"هكذا يكون قادة تلاميذ المسيح، أنهم يقودونهم للأمام.. يغذونهم بالتعليم، يروونهم بالماء الحي، يقيمونهم من سقطاتهم ويداومون على تنشئتهم حتى يقدمون أثمارًا، ثم يرشدونهم إلى الراحة والأمان".
ونحن في زماننا هذا أحوج ما نكون إلى الأنشطة الحية والمثمرة التي تتم تحت جناحي الكنيسة بملء العضوية والتفاعل والاندماج العضوي والحسي والنفسي والعاطفي والفكري والإيماني والحبي للتشجيع والمساندة والامتداد، فالجديد لا يلغى القديم، والجديد والقديم معًا يحظيان بنفس الحب والعطاء والرعاية والنمو، بلوغًا إلى العمق والكمال المسيحي.
ومن منظور مسيحي أرثوذكسي نؤكد أن البشر كيانات نفسجسدانية، والبشر لا يعيشون على وجه الإطلاق في مجال واحد من مجالات الخبرة بل يشترك الشخص كله نفسًا وجسدًا وعقلًا، فلا يستطيع الشخص أن يحيا في بُعد واحد للواقع ويظل أنسانًا.
لذا ليست خدمة الشباب مجرد تعليم لكنها خدمة إنمائية من خلال أنشطة الكنيسة كوعاء تربوي بنائي يقوم على التفاعل والحوار والأخذ والعطاء والتوجيه والتقويم الإرشادي، بعيدًا عن الغرق في سراب التلقين indoctrination ومن خلال الخدمة المتكاملة نشرك الشباب في الأنشطة، حتى لا تكون عضويتهم خاملة، فيغيب عنهم الاتصال والتفاعل بل ونستثمر إبداعاتهم ومواهبهم ونهيئ لهم الوسط الذي ينمو فيه الإيمان وسط تحديات كثيرة حادثة.
ولا يمكن أن نصل إلى قلوب شبابنا، إلا بالنهوض بمهاراتهم مع التلامس مع احتياجاتهم، فالشباب لا يحقن بالإيمان ولن يحياه ما لم يلمسه معاشًا ومختبرًا حيًا في ما نقدمه له من أعمال محبة وجهود صادقة يتذوق خلالها محبة المسيح وأحشاء رأفاته الجزيلة.
والنسور تجتمع حيث تكون الجثة، وحيث توجد الأنشطة المثمرة وخادم الشباب المثمر يتكاثر البنون الذين يلدهم في الرب، ومما لا يدع مجالًا للشك أن أكثر وأهم حافز في بداية واستمرارية الأنشطة، هو وجود هدف روحي للنشاط وخدام واعين لإدراكات الشباب من أجل الأداء المثمر في خدمتهم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/activities/integration.html
تقصير الرابط:
tak.la/f7kvxfk