1- عندما نحتفل جميعًا بربنا لكل الأسباب الأخرى، ألا نحتفل بالأكثر ممجدين إياه لأنه قد أصابنا باندهاش أمام الصليب، وأمام الصليب، وأمام هذا الموت الممتلئ بالخزي واللعنة؟ أليس القديس بولس في كل مناسبة يُظهر لنا موت المسيح كأعظم دليل على حبه لنا؟ ماذا كان حال البشر الذين مات لأجلهم؟ إذ قد توقف بولس الرسول عن الحديث عن السماء والأرض والبحر وكل الأشياء الأخرى التي صنعها المسيح لأجل فائدتنا (منفعتنا) وإراحتنا، يرجع في كل حين إلى الصليب قائلًا:
2- "إن الله بيّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو 5: 8)، ومن هذه الحقيقة يقترح لنا أعظم الآمال بقوله لنا "لأنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت أبنه، فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته" (رو 5: 10).
![]() |
3- ثم أليس بذلك يفتخر ويزداد اشتياقًا ويطفر ويطير من الفرح إذ يكتب لأهل غلاطية قائلًا: "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلا 6: 14). لماذا تندهش إن كان بسبب هذا يطفر بولس ويطير من الفرح، إذ أن المسيح نفسه الذي احتمل هذه الآلام يدعوها مجدًا له (عندما يقول): "أيها الآب قد أتت الساعة. مجد ابنك" (يو 17: 1).
4- والتلميذ (يوحنا) الذي كتب هذا قال: "لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد. لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد" (يو 7: 39). وهو هنا يدعو الصليب مجدًا، لكن عندما أراد إظهار محبة المسيح عن ماذا تكلم؟ هل تكلم عن معجزاته وعجائبه؟ هل تكلم عن بعض الآيات؟ لا شيء من هذا على الإطلاق، بل ذكر الصليب بقوله: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16).
5- وهكذا أيضًا يقول بولس: "الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!" (رو 8: 32)، وعندما يدعونا إلى التواضع، فمن هناك يستحثنا عليه بقوله: "فإن كان وعظ ما في المسيح، إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما في الروح، إن كان أحشاء ورأفة، فتمموا فرحي حتى تفتكروا فكرًا واحدًا، ولكم محبة واحدة بنفس واحدة، مفتكرين شيئًا واحدًا، لا شيئًا بتحزب أو بُعجب، بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسكم" (في 2: 1-3).
6- ثم يضيف في هيئة نصيحة قوله: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ صائرًا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (في 2: 5-8).
7- وحينما يدعو إلى المحبة يضع هذا المثال أيضًا في الوسط قائلًا: "أحبوا بعضكم بعضًا كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أف 5: 2). ومن أجل تحقيق الترابط الجميل بين الرجال ونساءهم قال هكذا: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 25).
8- والمسيح نفسه ليُظهر كم أن الصليب كان شغله الشاغل، وكم أنه كان يقدّر الألم، عندما قال له بطرس -أول الرسل وقائد خورسهم- عن جهل: "حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا" (مت 16: 22)، فاسمع ما دعاه به الرب قائلًا له: "اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي" (مت 16: 23)، وهنا أظهر المسيح بالتوبيخ الشديد والعنيف لبطرس عظم الأهمية التي كان يعلقها على الصليب.
9- إنه أراد أن تتم القيامة في خفية عن الكل وسرًا، وترك إلى الدهور (حرفيًا القرون) التالية مسئولية برهنتها. لكن الصليب كان في وسط المدينة في قلب العيد، ووسط شعب اليهود، إذ عُقدت له محاكمتان، واحدة من اليهود والأخرى من الرومان. وأثناء العيد كان كل العالم (اليهودي) مجتمعًا، وفي وضح النهار، وأمام الأرض كلها تكبد هذا العذاب.
10- وحيث أن الذين كانوا حاضرين هم فقط الذين استطاعوا رؤية ما حدث، فإنه أعطى أمرًا للشمس أن تعلن هذا في كل أنحاء الأرض باحتجابها، ولم يخشَ الرب أن يصنع هذا. وبالتأكيد ما بادرت بقوله هو أن هذا كان عثرة لكثيرين، ولكن لا ينبغي أن نفكر فيمن عثروا، بل فيمن خلصوا ومن أتموا أعمال الفضيلة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
11- لماذا تندهش إن كان الصليب في الحياة الحاضرة بهيًا جدًا، حتى أن المسيح دعاه مجدًا وبولس افتخر به؟ في ذلك اليوم الرهيب والمرعب عندما يأتي مُظهرًا مجده، عندما يأتي في مجد أبيه،عندما يقيم المنبر الرهيب، عندما يظهر الجنس البشري كله (أمامه)، عندما تغلي أنهار النار، عندما تنزل معه جموع الملائكة والقوات العلوية، عندما توجد ربوات المكافآت، عندما يلمع البعض كالشمس والبعض الآخر كالنجوم.(87)
12- عندما تقف جماعات الشهداء وخوارس الرسل وفرق الأنبياء، عندما يُقاد جمع البشر الشجعان علانية. آنذاك -نعم آنذاك- في هذا المنظر الذي يبهر الأبصار، في هذا المشهد الذي على الملأ. ها هوذا يحمل صليبه الذي يشع أنوارًا (حرفيًانيرانًا) براقة. والمسيح يقول: "حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وتظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه، وتظهر علامة الصليب" (انظر مت 24: 30-29).
13- أيها الألم الذي تلألأ، أيها الصليب الذي تألق!
الشمس تظلم والنجوم تتساقط كأوراق الشجر، أما الصليب فيلمع ببهاء أكثر منهم كلهم ويحتل السماء كلها. أترى كيف يتهلل به الرب؟ أتنظر كيف يكشف عن أن الصليب هو مجده عندما أظهره في ذلك اليوم في مثل هذا البهاء للأرض كلها؟
_____
(87) نظرًا للتقسيم الموجود في النص المتُرجم منه، جعل بعض المقاطع تبدو غير منسجمة لكن يمكن تلافي هذا بمواصلة القراءة دون النظر إلى التقسيم المصطنع.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-providence-of-god/cross.html
تقصير الرابط:
tak.la/qkfgh75