1- تفسير ما عمله المسيح
وعبر تاريخ الفكر المسيحي، حاول اللاهوتيون المسيحيون شرح سر الخلاص، بالعديد من الشروحات المتنوعة، هادفين إلى تفسير هذا السر العظيم، غير المدرَك في كماله.
وقد قبلت الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية معظم هذه الشروحات، ولكن جزءٌ منها لم يكن مقبولًا.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نعتبر أن أي رؤية تفسيرية، يمكن أن لا تخلو من حقٍ، طالما اتسقت مع الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس، وتسليم الآباء، وصلواتنا الليتورجية، وقانون الإيمان، وقوانين المجامع المسكونية والمحلية التي قبلتها كنيستنا. خاصة وأن، عمل ربنا يسوع المسيح الخلاصي على الصليب، هو عمل فائق، يصعب استيعابه وفهمه في كماله. لأنه سرٌ بالحق [6]، والسر لا يمكن استقصاؤه، بل يحتاج نعمة خاصة لإدراك بعضٍ من كماله.
“وأنتُمْ مُتأصِّلونَ ومُتأسِّسونَ في المَحَبَّةِ، حتَّى تستَطيعوا أنْ تُدرِكوا مع جميعِ القِدّيسينَ، ما هو العَرضُ والطّولُ والعُمقُ والعُلوُ، وتَعرِفوا مَحَبَّةَ المَسيحِ الفائقَةَ المَعرِفَةِ، لكَيْ تمتَلِئوا إلَى كُلِّ مِلءِ اللهِ. والقادِرُ أنْ يَفعَلَ فوقَ كُلِّ شَيءٍ، أكثَرَ جِدًّا مِمّا نَطلُبُ أو نَفتَكِرُ، بحَسَبِ القوَّةِ الّتي تعمَلُ فينا،” (أف 3: 18-20).
«لِأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟” (رو 11: 34).
“يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلِٱسْتِقْصَاءِ!” (رو 11: 33).
ولذلك لا يمكن لأحدٍ أيًا كان، أو لشرح واحدٍ، أن يحيط به إحاطة تامة. بل سيظل سر التجسد، وسر الفداء، سرًا لا ينتهي الإنسان من فهمه. بل أن محاولة الفهم هي كالاقتراب من العليقة المشتعلة أغصانها بالنار، لا يجوز الاقتراب منها ما لم نخلع حذاء الفهم البشري.
إنه كالاقتراب من الضباب الإلهي [7]، ومحاولة رؤية غير المرئي، واحتواء غير المحوى، ووضع بداية لمن لا بداية له، وإدراك غير المدرَك، وفحص غير المفحوص، ووضع حدود لمن لا يُحد. وهذا بالطبع مستحيل، ولكننا نستطيع أن ندخل إلى هذه المعرفة بنعمة خاصة من الله، تُمنح لأنقياء القلب، [8] والمتواضعين [9].
فالكتاب المقدس كشف لنا عن قدر محدود من المعرفة، يناسب إمكانياتنا البشرية، وبالرغم من أن الله كشف لنا عن ذاته في شخص ابنه الوحيد، ربنا يسوع المسيح [10]، إلا أنه يظل مدرَكًا لا يُدرَك كمالُه، مثلما قال المغبوط بولس الرسول: “يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلِٱسْتِقْصَاءِ! «لِأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟” (رو 11: 33 -34)
أو كما تساءل بلدد الشوحي "“«أَإِلَى عُمْقِ ٱللهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ ٱلْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟” (أيوب 11: 7-8).
إننا كمن ينظر الآن في مرآة، لنا بعض الفهم لكن ليس كل الفهم. “فَإِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلْآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. ٱلْآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ.” (1كو 13: 12)
يقول القديس كيرلس الكبير: "أَفَلَيْسَ هذا السر عميقًا؟ ألا يلزمنا الاعتراف بأن التدبير الإلهي أعظم مما يمكن للغة أن تصفه؟ أي شك يمكن أن يوجد في هذا؟ لذلك ليتنا عندما نُقدم له التسبيح، نكرر ما أنشدته قيثارة المُرنم: "ما أعظم أعمالك، يا رب! بحكمة صَنَعْتَ جميعها" (مز4:103)[س]."[11]
_____
[6] قيل عن الشمامسة: “وَلَهُمْ سِرُّ ٱلْإِيمَانِ بِضَمِيرٍ طَاهِرٍ.” (1تي 3: 9).
[7] “حِينَئِذٍ تَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ: «قَالَ ٱلرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي ٱلضَّبَابِ.” (1مل 8: 12).
[8] “طُوبَى لِلْأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللهَ.” (مت 5: 8).
“سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ، وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ.” (مز 25: 14).
[9] “فِي ذَلِكَ ٱلْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلْآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ، لِأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلْأَطْفَالِ.” (مت 11: 25).
[10] “ٱللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلْآبَاءَ بِٱلْأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ ٱلْأَيَّامِ ٱلْأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ” (عب 1: 1-2).
"و في آخر الأيام، ظهرت لنا، نحن الجلوس في الظلمة، وظلال الموت، بابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح" القداس الباسيلي.
[11] القديس كيرلس الكبير، عظة رقم (153) على شرح إنجيل القديس لوقا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/you-desired-to-renew-him/christ.html
تقصير الرابط:
tak.la/sk9asm8