أحب أن أقول أن الله يستخدم معنا طريقتين فيما يتعلق بالاحتياج:
أولهما: تلبية الاحتياج.
ثانيهما: إسقاط الاحتياج.
في الأولى يلبي لنا الاحتياج من طعام وشراب وأمور أخرى، وللرهبان في هذا المجال خبرات لا حصر لها يروونها بفرح وتأثر، وذلك على مدار تاريخ الرهبنة، فكيف يتخلَّى الله عن قوم تركوا العالم لأجله ولا يكفل لهم قوتهم... وفي الثانية يجعل الراهب يرتقي إلى الحد الذي لا ينشغل فيه بطعام أو شراب، أو شيء من أمور هذا العالم الحاضر.. فقد كانت خبرة الآباء في الصوم قديمًا هي الانشغال بالطعام بما هو أهم، فكان الوقت يمر في الصلاة والتأمل والعمل والتسبيح ليكتشف الراهب في نهاية اليوم - وربما يومين- بأنه لم يأكل، ومن ثم يتناول البسيط من الطعام لسد الرمق فقط.. وهكذا الحال بالنسبة للمقتنيات..
لقد عاش الأب عبد المسيح الحبشي في مغارة بالقرب من دير البرموس لمدة ثماني وثلاثين سنة دون أن يكون لها باب أو شباك، وعندما عرض القمص أنطونيوس السرياني (قداسة البابا شنودة) أن يصنع لها بابًا، استنكر الأب عبد المسيح قائلًا: هل يصنع الذئب لمغارته بابًا!! أنا مثل الذئب.. فلا تخشوا عليّ من الذئاب..
كما عاشت القديسة مريم المصرية في البرية عارية.. وكذلك القديس أنبا نفر السائح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.. والراهبان اللذان تقابل معهما القديس مقاريوس عند البحيرة...
ونقرأ في تاريخ بلاديوس أنه قد جاء راهب إلى كنيسة القلالي، وكان يرتدي غطاء رأس متدليًا على كتفيه، فلما رآه أنبا اسحق قس القلالي، تبعه قائلًا: "هنا يعيش رهبان، ولكنك رجل العالم فليس لك مكان للعيش هنا"..
إن تكدس صوان الملابس، أو أدراجنا بما يزيد عن الحاجة هو ضد الإيمان.. الإيمان بأن الله هو الذي يعولنا... أليست الحياة أفضل من الطعام... أليس الجسد أفضل من اللباس.. فالذي وهب الحياة وهي غالية قادر أيضًا أن يهب الطعام لأنه أبسط.. وكذلك الثياب للجسد... يقول القديس بولس: "كفقراء ونحن نغني كثيرين.. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2كو10:6).
في كتاب عن الصلاة، وردت قصة عن راهب عجوز في جبل أثوس Όρος Άθως، مرَّ به كاهن يزور الدير، فوجده ينقر بشاكوش صغير وقلم من الحديد في صخرة صلدة، فلما سأله عما يصنع أجابه بأنه ينوي أن يحفر حفرة حتى يتجمع فيها الماء متى نزل المطر، لأنه عطش في السنة الماضية!! وكان الرجل ضعيف البنية والصخرة صعبة، وحتى إذا نجح في ذلك فكيف سيحتفظ بالماء داخلها لموسم كامل...
ولعل السطور القادمة تبلور وتلخص لنا ماهية الحياة الرهبانية، كما عاشها الآباء الأول وسلموها لتلاميذهم، فقد ورد في بستان الرهبان عن القديس بيصاريون:
"أنه كان كطيور السماء، وكأحد وحوش البرية، وكائنات الأرض الزاحفة، أكمل حياته في سكينة بلاهم، ولم يهتم قط ببيت، ولا خزن طعامًا، ولا اقتني ملبسًا أو كتابًا، بل كان بجملته حرًا من الآلام الجسدانية، راكبًا فوق قوة الإيمان، صائرًا بالرجاء مثل أسير الأمور المنتظرة، طائفًا في البراري كالتائه، عاريًا تحت الأهوية، وكان يصبر على الضيقات مسرورًا".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/asceticism/need.html
تقصير الرابط:
tak.la/47rz9cp