الإنسان الذي كرس حياته لربنا يقول له الله "يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي" (أم 23: 26) فأول شيء أن يكون قلب الإنسان لربنا وليس لأحد آخر، وقالت الوصية الأولى "فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ" (تث 6: 5) والثانية مثلها "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (لا 19: 18). لكن الوصية الأولى والعظمى تحب الرب إلهك من كل قلبك؛ فلا يشترك أي أحد مع ربنا في هذا الحب، بمعنى أن محبة ربنا يجب أن تكون فوق كل اعتبار. الوصية الثانية "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ"، طبعًا لوحي العهد كانا عبارة عن أربع وصايا تخص الله والست وصايا الأخرى تخص القريب ولكن اللوح الأول وحده واللوح الثاني وحده، ماذا يعني هذا؟ يعني أنهما مكملان لبعضهما، أربعة وستة يساوي عشرة (عدد الكمال). بالفعل الوصيتان مكملتان لبعضهما؛ لكن وجود كل منهما في لوح على حدى يعني أن محبة ربنا يجب أن تكون لها حرارة فريدة من نوعها لا يتداخل معها أي شيء آخر؛ ولذلك قال السيد المسيح "مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" (مت10: 37)، محبة ربنا هي التي تجعل الإنسان يتحرر من كل شيء في الوجود ويذوب في هذه المحبة؛ فلا يعطله شيء إطلاقًا عن محبة السيد المسيح.
بعدما يبدأ الإنسان في انطلاقه لمحبة ربنا (المحبة التي لا يشترك معه فيها أي أحد نهائيًا) يبدأ بعدها في محبة الناس محبة سليمة لأن "اللهُ مَحَبَّةٌ" (1يو 4: 16) فالله يحب الخليقة وهو محب البشر. لكن الغريب أن محبة القريب (محبة الناس) هي دليل على أن محبة الشخص لربنا هي محبة صادقة، كقول الكتاب المقدس "إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الذي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الذي لَمْ يُبْصِرْهُ؟" (1يو 4: 20)، أي أن محبة القريب هي العلامة على محبة الإنسان لله، لكن الذي يحب القريب أكثر من الله يسير في طريق غير سليم. ينبغي أن يحب الإنسان الله جدًا جدًا، ثم تظهر علامة محبته لله في محبته للناس محبة طاهرة مقدسة "فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ" (1بط 1: 22).. حتى مجرد أن يصلي من أجلهم. ليست محبته للناس بمعنى أنه يجب أن يجلس يثرثر معهم. من الممكن أن محبته تحثه على أن يصلي من أجل خلاص العالم كله، إن كان الراهب يعيش في الدير فوسيلته الأساسية في التعبير عن محبته للخليقة، هي أن يصلي من أجل خلاص العالم عمومًا.
لا يوجد تعارض بين محبة ربنا والقريب؛ بل الثانية دليل على الأولى، لكن الأولى لا يصح لأحد أن يشترك فيها. لذلك كما أعطى الله لموسى النبي الوصايا في لوحين، الوصايا الخاصة بالله في لوح وحده والوصايا الخاصة بالقريب في لوح وحده، كذلك أيضًا السيد المسيح قال "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (مت 22: 37- 39) والثانية مثلها "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (لا 19: 18). أي أن السيد المسيح جعلهما وصيتين ولم يدمجهما في وصية واحدة؛ لكي يُفهِم الناس أنه لا يستطيع أحد الاشتراك في محبة الله التي في القلب.
كمثال لذلك أيضًا محبة الآب والابن لبعضهما.. هذه محبة أزلية فريدة لكن هذا لا يمنع قوله "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ" (يو3: 16). محبة الآب للابن والابن للآب مسألة تفوق الخيال والتصور والوصف؛ فهي محبة فريدة لا يمكن للخليقة أن تتصورها أو تصفها، لكن الحب الذي بين الآب والابن والروح القدس لا يمنع أن يحبوا الخليقة والعالم بقوة وبصورة قال عنها السيد المسيح "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لكي لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".
السيد المسيح تكلم في هذه النقطة وقال للآب في صلاته الوداعية "أَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي" (يو17: 23) كلمة "كما أحببتني" تعني مثلما أحببتني تحبهم، لكن ليس معناها أن هذا الحب متساوٍ؛ لأنه من غير المعقول أن يحب الابن غير المحدود بنفس الدرجة التي يحب بها إنسانًا محدودًا أو كائنات محدودة.
على الرغم من أن محبتنا للقريب لها حدود، فهذا لا يعني أن يكون الشخص بخيلًا في محبته؛ لأن الكتاب المقدس يقول "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (لا 19: 18) فأقل درجة أن تحبه مثل نفسك، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأيضًا كقول السيد المسيح "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ" (يو 15: 13) ووصيته "هَذِهِ هي وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ" (يو 15: 12).. محبة فيها بذل وتضحية.
خلاصة الكلام: إن محبة ربنا يجب أن تفوق كل حب آخر؛ فهي نفسها التي تجعلنا نستطيع أن نحب الناس ونخدمهم ونصلي من أجلهم أو يكون لنا دور فعال في حياتهم؛ فننشر الحب بينهم، لهذا قال معلمنا يوحنا الرسول "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ. مَنْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ في الْمَوْتِ" (1يو 3: 14). بهذا نعرف أننا قد ولدنا من الله؛ لو كنا نحب الإخوة وهذا شيء طبيعي جدًا، فالذي يتحد بالله الذي هو المحبة؛ لابد أن يكون عنده طاقة حب للآخرين لا تتوقف. مثلما يقول معلمنا بولس الرسول عن المحبة إنها "تَحْتَمِلُ كُلَّ شيء وَتُصَدِّقُ كُلَّ شيء وَتَرْجُو كُلَّ شيء وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شيء" (1كو13: 7) فلا ينبغي أن يقول أحد: لقد أحببت بما فيه الكفاية، بمعنى لا يوجد عندي طاقة أخرى للحب... استنفذت كل طاقة الحب التي عندي.
فلا ينبغي أن تتوقف محبتنا للقريب بل لا بُد أن تستمر؛ رغم إنها محدودة بحكم أن هذا القريب وجوده محدود، وظروفه محدودة... حتى إذا أعطى الإنسان مثلًا كل أمواله، فهي أيضًا محدودة، أي هو شيء باستمرار له حدود وهذا ليس بسبب قصور الحب ولكن بسبب أن الخليقة محدودة؛ بينما الله غير محدود؛ لذلك تظل محبة الله تفوق كل الوصف كما يقول عنه القديس إغريغريوس الناطق بالإلهيات [وليس شيء من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر].
ولربنا المجد إلى الأبد
آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/monastic/heart.html
تقصير الرابط:
tak.la/3bvb9nz